الولايات المتحدة مدينة بفضل كبير الى صدام حسين. فقد أعطاها فرصة أولى من نوعها بغزو الكويت، اذ أتاح لها بذلك خوض أنجح حرب خارجية ساخنة في تاريخها. حتى أن جورج بوش الأب صرح فور نهايتها قائلا:" بحق الله لقد محونا عقدة فيتنام الى الأبد!".
ولكن جورج بوش الإبن بدد محصول الوالد، وخلق بدل عقدة واحدة اثنتين،هما افغانستان والعراق، بعد حربي 2001 و2003. فالاثنتان خاسرتان . ولعلهما، ومن دون الخوض فيهما، شكلتا خلفية انتصار مسبق لأوباما على رومني في المناظرة الثالثة المخصصة للسياسة الخارجية الأميركية.
أما المناظرة نفسها فقد عززت فوز أوباما لأنه أظهر استنكارا للغة رومني التي استحضرت أشباح الحرب الباردة. صحيح أن هذه الحرب "الباردة" هي قصة نجاح خارجي أميركي آخر، ولكن جروح البلاد لم تندمل من العراق، وماتزال نازفة في افغانستان، وبالتالي فان المشاعر ليست مهيأة لاستقبال كلمات التلويح بحروب الخارج، باردة أو ساخنة.
لقد وضع التاريخ بلاد العم سام في مفارقة غريبة. فهي"الأمة الوحيدة التي صارت الأقوى في العالم دون ان تسلك الطريق العسكري" على ما قال ديغول أيام الحرب العالمية الثانية. فحتى ذلك الوقت لم تكن قد بدأت بعد "المغامرة الكونية" التي تلت غروب الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية. ومع انطلاق تلك المغامرة خاضت سلسلة حروب خارجية سيئة السمعة والنتيجة، عدا "عاصفة الصحراء"، وهي الحرب الخارجية الوحيدة التي حققت فيها الولايات المتحدة نصرا كاملا مشفوعا بشرعية دولية كاملة.
والمفارقة هي ان أميركا أصبحت في موقع القوة الأولى في العالم عبر مسيرة تطورية داخلية، بلا فتوح ولا حروب في الخارج. لكن هذا الموقع، الذي خصها بدور قيادي في مجلس الأمن، يملي على قوتها العسكرية وظيفة تشمل العالم، للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. فهي قائدة "الشرطة الدولية" أو رئيسة مخفر شرطة العالم.
وهذا "العز" كله لا ينال الا أقل الاهتمام لدى المواطن الأميركي. فالسياسة الخارجية، التي كانت موضوع المناظرة الثالثة، ليست مركز اهتمامه، خلافا للسياسة الداخلية التي شغلت المناظرتين الأولى والثانية. ولعلهما اكثر نفعا وفائدة من الأخيرة لمشاهدي البلدان النامية. فالحكمة فيهما أن عيشة المواطن الكريمة هي الأهم، هي رأس الاهتمام ومركز الهوى.
المناظرة الثانية، مثلا، ناقشت سبعة موضوعات تكرر ذكر عناوينها 173 مرة، وكان نصيب موضوعات الداخل الخمسة منها 164مرة و9 لموضوعي الخارج وهما ليبيا وسوريا. والسبب في ذكر ليبيا داخلي ايضا، وهو مقتل الدبلوماسيين الأميركيين في الحادث المشهور. وتكرر ذكرها 5 مرات. سوريا موضوع الساعة ذكرت فقط 4 مرات. أما الموضوعات الخمسة الداخلية فذكرت بالتسلسل الآتي: الاقتصاد 66، العمل 46، مجال الطاقة 30، التوظيف 11، الهجرة الأجنبية 10 مرات.
هذه الأرقام تقول أن العالم هو اميركا بالنسبة الى الأميركي، وان المستوى المعيشي، او العيش الكريم هو موضوع المواطن، وليس الطائفة أو القومية أو الفكرة أو الحزب أو مجد الأمة. كل هذه الأشياء بخير طالما كانت عيشة المواطن الكريمة بخير. والعكس صحيح. أي أن لاشيء بخير اذا لم تكن حياة المواطنين بخير. هذه هي قاعدة التفكير الصحيح في البلدان الصحيحة. وهي بسيطة مفهومة مهضومة لدى العامل والعالِم. ومأتاها قريب في بلدان الاقتصاد أولا، بعيد في بلدان السياسة أولا. وهذان عالمان بينهما هوة سحيقة كالتي بين الأسطورة والحقيقة.
الاقتصاد أولا
[post-views]
نشر في: 23 أكتوبر, 2012: 07:57 م