إحدى مشكلات أن تكون مؤرخاً أنك لا تستطيع أن تجعل الناس سعداء أبداً. فالمحررون في دور النشر يريدون من كتبك أن تتضمن النوع اللطيف من السرد المعروف في روايات الإثارة؛ و زملاؤك المؤرخون يريدون من كتابك أن يكون مجرد تنقيح لما سبق نشره من كتابات؛ و القراء
إحدى مشكلات أن تكون مؤرخاً أنك لا تستطيع أن تجعل الناس سعداء أبداً. فالمحررون في دور النشر يريدون من كتبك أن تتضمن النوع اللطيف من السرد المعروف في روايات الإثارة؛ و زملاؤك المؤرخون يريدون من كتابك أن يكون مجرد تنقيح لما سبق نشره من كتابات؛ و القراء لا يريدون لتصوراتهم المسبقة أن تتصدّع. و من الصعب أن تجد توازناً بين هذه الأمور، بل ربما من المستحيل أن تفعل ذلك، كما يقول المؤرخ الكاتب غَاي وولترز في مقاله هذا (1).
خذ مثالاً على ذلك كتابي الأخير، ( الهروب العظيم الحقيقي The Real Great Escape) الذي يمتحن الواقع الذي وراء الفيلم المحبوب كثيراً ( الهروب العظيم ) عام 1963، و هو من تمثيل ستيف ماكوين و ريتشارد أتينبورو و آخرين (2). و يروي الفيلم القصة الحقيقية للكيفية التي حفر بها 80 أسير حرب من الحلفاء نفقاً إلى خارج معسكر اعتقالهم (3) في ساليسيا السفلى في آذار من عام 1944، و أُعدم 50 منهم على أيدي النازيين. و العقل التقليدي يرى بالفعل أن الهروب كان " عظيماً، "، و أنه بالرغم من أن ثلاثة هاربين فقط أفلحوا في الوصول إلى بريطانيا، فإن الهروب قد عطَّل الكثير من الموارد الحيوية الألمانية التي كان بالإمكان استخدامها للمجهود الحربي.
و قد سُردت القصة مراتٍ عديدة، و في كل سرد تصير أكثر طولاً و بطولية قليلاً، فقررتُ أن أزيح طبقات البريق المستخدمة التي أضافها الكتّاب السابقون، و أدرس الوثائق و أستمع للمقابلات القديمة من أجل أن أصل إلى الحقيقة الكامنة وراء طلاء التعظيم الوطني. فكانت الصورة التي برزت عندئذٍ، و على نحو ما تنبّأتُ به ربما، مختلفةً جداً. فالكثير من الأسرى التابعين للحلفاء، و بعيداً عن كونهم مجموعة متجانسة من الشباب التوّاقين للهرب كما تم تصويره لنا، لم يكن لديهم رغبة في الفرار، و غالباً ما كانوا يعتبرون الذين يفكرون بذلك من مثيري المشاكل. و قد وصف أسير أميركي الهروب ذاته بكونه عملاً من أعمال " الجنون العسكري "، شهد ضياع الكثير من الأرواح. و الأكثر من ذلك، أنه لم يعرقل آلة الحرب النازية مقدار ذرة، بل أنه، للسخرية، ساعد الألمان. فقد أحاطوا، في البحث الذي أعقب ذلك، بآلاف الهاربين الآخرين على امتداد الرايخ الألماني. و عليه، و وفقاً لاستنتاجي، فإن ذلك الهروب، في نهاية الأمر، لم يكن عظيماً هكذا.
و كان رد فعل بعض القراء الذين سمعوا عن كتابي و حججه غاضباً، على زعم أني قمت بتلويث الذكريات و ما إلى ذلك. و هذا أمر مفهوم، و أنا حريص في الكتاب على أن أكون حساساً تجاه ذكرى أولئك الذين ماتوا. و بعضٌ آخر من القراء كان غاضباً جداً، و هدّد بضربي. و على كل حال، فإن النقد الأكثر إحباطاً ربما هو الأكثر شيوعاً، و هو من قبيل : " إنك لم تكن هناك. فكيف يمكنك أن تعرف أن الأمر كان شبيهاً بذلك؟ و من أنت لتحكم عليه؟ "
يمكننا أن نرد على المقولة الأولى بسهولة. فأنا بالطبع لم أكن هناك، و لا كان معظم المؤرخين حاضرين في الأحداث التي يصفونها. و إذا اعتبرنا ذلك الانتقاد سليماً، فإنه يؤدي عندئذٍ إلى الشطب على أية دراسة للماضي، و يدعو لإيقاف إنتاج الأعمال التاريخية.
و النقطة الثانية من النقد تحمل ثقلاً أكثر. مع ذلك، فإن محاولة استنباط " ما كان يشبه ذلك " هي شغلي، و أنا، بقضائي سنتين أنخل المادة الأرشيفية و أستمع لساعات كثيرة من المقابلات، واثق من أن لديّ فكرة عما يشبه ذلك الذي حدث في " ستالاغ لوفت الثالث " أفضل من هؤلاء الذي يريدون مني تجميل الأمور. و نحن بطبيعة الحال لا يمكننا أن نعرف على وجه الدقة أبداً ما كان يشبه، لكن تلك الخاصية المراوغة جزء من السحر المحبط الخاص بالتاريخ.
أما بالنسبة للحكم على الأمور، فأنا أرى أن ذلك أيضاً من شغلي. فالإدراك المؤخَّر إلى وقتٍ آخر يمكن تطبيقه بشكل صحيح، طالما أن المؤرخ لا يسند رأيه على معطيات لم تكن بإمكان مواضيعه الحصول على مدخل إليها. و كما يظهر، فإن أسرى الحلفاء كانوا يُحذَّرون تكراراً بأن أموراً سيئة ستحدث لهم، و في آذار 1944، كان الناس يعرفون بالفعل الطريق الذي كانت الحرب سائرة فيه (4).
عن/ INTELLIGENT LIFE
الإشارات :
(1) كاتب بريطاني ( 44 عاماً ) له عشر كتب منها "Hunting Evil" و. "Berlin Games"
(2) و هناك أفلام أخرى حول هذا الهروب.
(3) هو " ستالاغ لوفت الثالث Stalag Luft III " أو المعسكر الرئيس للعاملين على الطائرات خلال الحرب العالمية الثانية. و قد اختير في موقع يصعب فيه حفر نفق للهروب منه.
(4) أي أنها على وشك الانتهاء.