كنت أعيب على الكثير من صديقاتي وأصدقائي العراقيين المغتربين كثرة زيارتهم لمدنهم التي غادروها مضطرين، وأعجب من تعلقهم المَرَضي بمساقط رؤوسهم، من إدمانهم على تذكر ومحادثة كل ما يحدث لدينا. حتى كنت قد همست بأذن أكثر من واحد منهم بان أقلعوا (عن تذكر جيران بذي سلم..) ورحت أعيب عليهم انشغالهم المتصل بما ننشغل به من مصائب، نحن الذين لم نغادره، في توجيه خفي مني بان يكتبوا عن حياتهم هناك. عن الطبيعة والجيران والحياة بصورة عامة في البلدان الجميلة التي آوتهم واتخذوها ديار نأي وأمن وسكن، أقول لهم أكتبوا عن الطبائع الانسانية التي نفتقدها في حياتنا، عن العلائق النبيلة التي هي قوام الحياة هناك.
كثيرون أجابوني بانهم غير قادرين على نسيان بلداتهم وأهلهم وأصدقائهم، وهذا أمر يدركه كل عراقي. لكن الغريب في الموضوع قولة أحدهم بانه لطالما ظل يحاول ذلك، لكنه لم يستطع، ثم أنه قال بانه مصاب بمرض عضال اسمه العراق. هو مزيج من حب وكره، خلطة غريبة من عشق وجنون، عجينة مقدسة من دم ودمع وغربة. وحين تأملت ذلك صحت من فجوة عميقة في روحي، هو كذلك، وأنا أيضاً، هنالك شيء يفزعني كلما مررت بقرية فقيرة، كلما مررت بشارع وسخ، كلما رأيت عمود نور منحنِ، كلما تعثرت بحجارة على الطريق. اشتم اللحظة التي كنت فيها ثم أني سرعان ما اقول لا، هذا العراق الذي قرر ابي أن اولد فيه، هذا العراق الذي قررت أنا أن أقبر فيه أيضا.
لي صديق يهديني كل عام زجاجة من ماء اللقاح، وهو ماء يتم تقطيره من طلع النخيل الإناث، عطر ذو رائحة زكية جداً، إذا تنسمه المرء امتلات انفاسه بشذى الارض والماء واليمام. عطر غريب لا يمكن وصفه بكلمات معينة، الجمل والحروف قاصرة على وصف عطر، أي عطر، فما بالك بهذا. ولي صديق يهودي اسمه (أميل كوهن) من أسرة بصرية، كانت تسكن محلة السيمر، يقيم في لندن منذ اكثر من خمسين عاما، عرّفني عليه احد المدعوين لمؤتمر اصدقاء برطلا الذي يقيم بسهل نينوى قبل أن تدخله داعش. كوهن هذا، رفض الذهاب إلى الدولة العبرية حين خيّر بين الإقامة في إسرائيل أو بريطانيا، فظل في لندن عراقيا ينتظر عودته إليها، حتى تقدم العمر به. كنت أهديته علبة من تمر البصرة، حملتها معي قبل سفري آنذاك، ففوجئت برسالة منه يقول لي: أتعلم يا طالب باني قررت أن آكل في كل يوم تمرة واحدة لكي لا ينفد التمر. كنت أريد أن تبقى البصرة معي من خلال حبات التمر هذه.
لمن يأتيها بالسيارة، سيكون على زائر مدينة النجف المرور بمحافظة الديوانية، ومن ثم المرور بقرى وأقضية وقصبات مثل الشامية والحمزة والشنافية وعفك وابو صخير والدغارة وووو. وفي مثلها من المدن العراقية التي تنحشر في السهل الرسوبي هذا، حيث لم يتمكن الرافدان العظيمان(دجلة والفرات) من جعل الحياة ممكنة هنا. في الامكنة العصية على الحياة هذه، تستعاد الحياة بوصفها نوعا من ممارسة مجنونة للعيش.
حين تكون الشوارع غباراً ومطباتٍ وحين لا تسمع اغنية في مذياع أية سيارة تمرق، وحين لا تجد طفلاً يبتسم أمامك، وحين تكون أسماء المدارس كلها بأسماء الحروب والغزوات والقتلى، وحين تفزعك الرايات الكثيرة بسيوفها وعباراتها المميتة، وحين يخطف بصرك حائط اسمنتي تخرج منه عشرات القضبان الصدئة، وحين يبيعك البقال الطماطم والبطاطا مغبرة بفعل مرور مئات العجلات على الشارع الترابي دون ان تشعر معه بتذمر ما، ومثل ذلك عشرات ومئات المشاهد التي لا تمت بصلة للإنسانية وما جاورها، ستقف حائراً منصتا لوحي روحك وهو يطالبك بتحرير رأي سديد بين العراق كبلد ضامن للعيش وبين العراق بوصفه مكانا متوقعاً، محتملا للعيش. آنذاك ستكون النوستولوجيا مرتبة في الغباء إذا ما علمت بان من سرقوا الحلم الكبير في الحياة فيه هم من يحدون بقافلة خرافة الامل والتطمين عليه اليوم.