الجسد العليل يصعب ان يتذوق اللذة الطبيعية ويصعب ان يقوم بالافعال الاعتيادية، وحين يصاب بالزكام فيصعب ايضا ان يتلقى علاجا اعتياديا. اذ تتناقض العلل وتتعارض العقاقير ويتصادم الحار بالبارد، والبارد بالحار، فيختل كل شيء ويتطلب الانقاذ حلولا غير اعتيادية، ترعب المريض واهله احيانا.
وفي العراق ينبغي للمريض واهله ان يقتنعوا بان تفاقم السوء سببه انهم كانوا رافضين للحلول غير الاعتيادية، ويعتقدون ان مرضهم عادي رتيب يسهل علاجه، ولذلك تفاقم سوء الفهم واخذنا مدة طويلة في التجريب والاختبار وسال دم كثير ومر وقت طويل، وامتنعت التنازلات الكبرى الهامة.
وفي هذه اللحظة هناك من تعلم الدرس ويريد تصحيح العلاج وتقبل خيارات غير تقليدية تنتهي بدرجة من الصلح وتخفيف الاحتقان وحصر قضايا النزاع كي لا تستفحل اكثر مما هي مستفحلة. لكن الخبر السيء ان "فصيلة" جديدة من المؤثرين في صناعة القرار، بدأت تتورط في السياسة لتوها، وهي لا تحترم من سبقها لتتعلم منه، ولا تثق بمن ساندها لتأخذ المشورة عنه. وهذه "الفصيلة" مؤثرة في كل الطوائف، وتجمعها اوصاف من قبيل عدم الايمان بجدوى السياسة، والمبالغة فيما يمكن للسيوف ان تصنع، وعدم الايمان بجدوى انشاء تحالفات جديدة مع الدنيا بمنطق المصالح المعاصر، وهذه الصفات ليست شتيمة لاحد، فمعظم الحركات السياسية والثورية في منطقتنا مرت بهذه "الطفولة"، لكن من غير المعقول ان نجتاز هذه المرحلة ثم نعود لنرتكس فيها بسبب ظهور طبقة جديدة من الشباب "المؤثرين بسيوفهم" والذين يرفضون ادراك اهمية السياسة ويرفضون تقبل العلاج غير الاعتيادي لجسد العراق العليل، مع انهم سيعضون اصابع الندم فيما بعد، كما حصل مع كل التيارات التي غادرت "الطفولة السياسية" بعد ان خاضت في بحار من الدم، وتسببت احيانا في خراب مدن وبلدان، وادركت اهمية الصلح متاخرا. ولم يكن صدام حسين سوى خريج لمدرسة الانفعال والارتجال والتسرع هذه.
هذا بشأن العراق بعامة. لكن علي ان ادلي بشيء حول اضطرابات البصرة. ولن اتطرق الى تفاصيل، ولن انحاز لفريق ضد اخر. ان البصرة تحتاج حوارا سياسيا بعيار كامل تنخرط فيه الفعاليات المحلية مع الاحزاب الكبرى في البلاد. ان ما يحصل في مينائنا ومدينتنا التاريخية ومركز صناعتنا النفطية، ليس مجرد مظاهرات عابرة ضد المحافظ الدكتور ماجد النصراوي، وليس مجرد تباين اراء حول مشروع اعلان الاقليم، ولا هو غضب ثانوي يمكن ان يجري استغلاله، بل هو شهادة على وجود وضع غير طبيعي جدا هناك، هو نتيجة فهم ناقص لدور البصرة السياسي. واذا لم تمتلك هذه المدينة دورا سياسيا معرفا بوضوح فستبقى مرجلا يغلي بثرواته المبددة وفرصه المضيعة وتاريخ من المجد لم يحظ بالاهتمام المطلوب. وكل هذه عوامل تمرد وثورة وانقسام وانفصال، يمكن ان تشتغل سواء كان اداء المحافظ جيدا ام سيئا. لان مشكلة البصرة لا تتعلق بالخدمات ولا بالماء المالح ولا بتزايد سكانها بسبب هجرة غير منظمة، بل بوجود طاقة روحية كبيرة وثقة بالنفس متصاعدة، وزيادة في الرغبة بالمشاركة السياسية، تنمو مع صعود اجيال جديدة من الشباب، يقابلها عدم تفهم لهذه التحولات وعدم منح المدينة حقوقها السياسية الدستورية وصلاحياتها الاقتصادية، وعدم تصديق ان البصرة مشكلة خاصة بمعنى الكلمة، شكلتها خصوصيتها الجغرافية والاقتصادية والثقافية التي تجعلها مشكلة اعقد من غيرها، تتطلب فهما لم يتوفر حتى الان.
ان الحفاظ على البصرة يبدأ بتصحيح تصوراتنا حولها. والمزيد من فهم البصرة سيعني فهما افضل للعراق بأسره.
حلول استثنائية ومسألة بصراوية
[post-views]
نشر في: 13 يونيو, 2015: 09:01 م