TOP

جريدة المدى > عام > قراءات في بعض الروايات الفلسفية

قراءات في بعض الروايات الفلسفية

نشر في: 17 يونيو, 2015: 12:01 ص

ثمّة قناعة راسخة لدى الكثير من الناس بأن ( أيريس مردوخ ) هي الإسم الأكثر ملازمة للرواية الفلسفية رغم أن كتبها تبدو عتيقة النكهة بعض الشئ لجيل كامل من الشباب ، و قد كتبت أيريس ذاتها في " ييل ريفيو Yale Review " عام 1959 تقول " ينبغي أن تكون الرواية بم

ثمّة قناعة راسخة لدى الكثير من الناس بأن ( أيريس مردوخ ) هي الإسم الأكثر ملازمة للرواية الفلسفية رغم أن كتبها تبدو عتيقة النكهة بعض الشئ لجيل كامل من الشباب ، و قد كتبت أيريس ذاتها في " ييل ريفيو Yale Review " عام 1959 تقول " ينبغي أن تكون الرواية بمثابة منزل يصلح لسكنى الشخصيات الحرّة في فعلها " و لكننا مع هذا نلمح أن العديد من شخصيات رواياتها هي في الغالب نتاج فعل تخليقي غير محتمل و واقعة تحت ضغط آلية حبكة ثقيلة و معقّدة .

تعنى رواية مردوخ المعنونة " تلميذ الفيلسوف " The Philosopher"s Pupil
عام 1983 - كما هو الحال مع معظم روايات مردوخ الأخرى – بمسألة الخير و الشر في هذا العالم و لكن يبدو أن الكثير من رؤية مردوخ الميتافيزيقية التي ضمّنتها في رواياتها تغرق وسط طوفان من الميلودراما على الرغم من كون هذه الميلودراما غاية في الإمتاع ، و قد سبق أن قالت مردوخ عن نفسها " أتردّد كثيراً في الإنسياق مع الرأي القائل بأن الهيكل العميق لأي عمل أدبي رصين يمكن أن يتأسّس على رؤى فلسفية " و عبّرت في موضع آخر عن " رعبها الشديد من تضمين أية نظريات أو أفكار فلسفية في رواياتها " .
ميلان كونديرا : الروائي المعروف برؤيته الفلسفية الشخصية المتفرّدة عبّر هو الآخر عن توجّسه بشأن ما أسماه " التصوير الروائي للأفكار " كما نراها معروضة في رواية " الغريب " لألبير كامو ، و رواية " الغثيان " لسارتر ، و أقرّ كونديرا دوماً بصعوبة الحصول على التوازن المطلوب بين الإبداع الروائي و الأفكار الفلسفية ، و لكن الصعوبة البيّنة هذه لم تردع الكتّاب من تجريب الحل الذي إقترحه ( كونديرا ) و عرضه في كتابه ( فن الرواية The Art of the Novel ) عام 1988 و الذي يقول إن من الخطأ الفادح أن تستحيل الرواية سرداً فلسفياً بل إن المطلوب هو تضمين الرواية ما يمكّنها من أن تشعّ ذكاءً و يضمن لها سيادة تستحقها بين الأنواع الأدبية ، و بالإستناد إلى رؤية كونديرا هذه يمكن لنا أن نتصوّر حجم الفزع الذي أصابه عندما نشرت النيويوركر الأجزاء الثلاثة الأولى من روايته الذائعة الصيت ( خفة الكائن التي لا تحتمل ) عام 1984 بعد أن حذف منه ذلك المقطع الخاص ب ( نيتشه ) و نظريته في العودة الأبدية التي تمثل الأساس الراسخ الذي أقام عليه كونديرا هيكل روايته .
إن واحدة من افضل الروايات التي تحقّق رغبة كونديرا في رواية تشع ذكاءً و تحقق السيادة بين الأنواع الأدبية هي الرواية المنشورة حديثاً ل ( سامانثا هارفي Samantha Harvey ) المعنونة ( الكل هو أغنية All is Song ) و التي تحكي عن علاقة بين شقيقين رسمت شخصية أحدهما لتكون بمثابة سقراط يومنا الحاضر ، و تقول سامانثا في سياق التعليق على روايتها هذه " تخيّلت روايتي نسخة محدّثة و سهلة الإحالة إلى حياة سقراط " ، و تضيف " أردت ان أطرح في روايتي سؤالاً محدداً لطالما راودني بقوة : ما الذي سيحدث لحياة شخص ما في أيامنا هذه لو كان شخصاّ ذا نزوع سقراطي و أعني بهذا شخصاً لا يكف عن التساؤل ؟ و هل نحن- كمجتمع حديث – أكثر تسامحاً و انفتاحاً في التعامل مع هكذا شخصية ممّا كان عليه الإغريق ؟ " ، و كانت رواية هارفي وسيلتها في إستكشاف هذه الأفكار و نظائرها تماماً كما كانت رواية ( ما كتبه الكتّاب الأشباح Ghostwritten ) للكاتب ( ديفيد متشل David Mitchell ) ( الكاتب الشبح Ghost Writer : هو من يقوم بكتابة مذكرات او رواية أو مقالة أو أي نص أخر لحساب شخص آخر ، و غالباً ما يستعين الساسة و نجوم الفن و المجتمع بهؤلاء الكتّاب في كتابة مواد لهم ، المترجمة ) ، و قد بحث ديفيد ميتشل في روايته موضوعات السببية Causality ، و التخلّي عن المسؤولية الشخصية ، و السبب الكامن وراء رؤيتنا للحوادث كما تبدو لنا في العالم المادي و ليس بأي شكل آخر . في السياق ذاته وبطريقة مشابهة تماماً تلقي روايات الروائي الجنوب افريقي ( جي . إم . كوتزي J. M. Coetzee ) حزماً من الضوء الساطع على مناطق من حياتنا الأخلاقية و التي قلّما تستطيع الفلسفة مقاربتها بسبب طريقتها المسلكية المنضبطة و الشديدة الصرامة ، إذ لطالما نظر الفلاسفة بإرتياب إلى السرد القصصي و الروائي و هم لا يتقبّلونه معتبرين إياه طريقة إقناع قوية و لكنها لا تمتلك مشروعية مقبولة من وجهة النظر الفلسفية ، و في المقابل إعتاد الحكّاؤون و ساردو القصص أن يهزّوا أكتافهم مدافعين عن وجهة نظرهم التي تقول " و لكن هذا هو العالم الذي نعيشه " و هؤلاء هم في الغالب كتّاب من النوع الذي يرمي إلى برهان خطل نظرة ( هنري جيمس ) في أن الرواية الإنكليزية - و على العكس من رفيقتها الفرنسية – لا تحتمل إجراء الكثير من النقاش حولها و هنا يبقى ثمة سؤال جوهري ينبغي سؤاله على الدوام : إلى أي مدىً يمكن للرواية ان تكون جادة و رصينة من غير أن تدفع قرّاءها إلى نمط من الشعور بالنفور الجامح على الرغم من كون عقدتها الرئيسة غير قابلة للتخمين السهل ؟
يعدّ الروائي المعاصر ( جوليان بارنس Julian Barnes ) واحداً من الروائيين الذين يمكن إثارة الكثير من النقاش حول رواياته دوماً - ربما بسبب ميوله الفرانكوفونية – و تتعاطى رواياته في الغالب مع تشكيلة من المفاهيم الفلسفية : معنى الحب ، و فكرتنا عن التاريخ كما هو الحال في روايته ( تاريخ العالم في عشرة فصول و نصف A History of the World in 101/2 Chapters ) عام 1989 ، و كذلك تعامل مع مفهوم الحقيقة اليومية في مقابل الحقيقة الروائية كما في روايته ( إنكلترا ، إنكلترا England , England ) عام 1987 ، و من المثير أن نشهد كيف تتوالد الأفكار في روايته الأحدث الحاصلة على جائزة المان بوكر لعام 2011 و المعنونة ( الإحساس بنهايةِ ما The Sense of an Ending ) : فهي في أحد المستويات تبدو كما لو كانت رواية طافحة بالغموض السايكولوجي ، و في مستوىً آخر تبدو رواية عن التأمل الفلسفي في مسألة إنسياب الزمن و تسلّله و ما يترتّب على هذا من تشويه مزمن في الذاكرة البشرية .
يبدو جليّاً ان المشكلة الأساسية في الرواية الفلسفية اليوم هي جرعة الفلسفة التي تحتويها ، و لكن مع كل هذا ستظل الرواية دوماً قادرة على إنجاز أفضل مهماتها و هو وصف الناس - الشخصيات الروائية الذين هم مثلنا – و هم يتعاملون وسط بيئة تعجّ بالحالات المعقّدة من الناحية الأخلاقية ، و سيظل الروائيون يسعون – كما تؤكّد عبارة وردزورث – إلى " إستكشاف الحياة الكامنة في الأشياء "و لكن ينبغي ان نتذكّر دوماً أن الرواية شيء نشعر به و نعيشه و ليس محض تخليقات نظرية ، و أن حكي القصص كان على الدوام الوسيلة الطبيعية الأكثر أساسية في إضفاء معنىً ما على العالم .
رأى ( أرسطو ) في كتابه ( فن الشعر Poetics ) أن الشعر لا يرينا الأشياء التي حدثت بل الأشياء التي يمكن لها أن تحدث و تلك ذات المهمّة التي يمكن ان تنهض بها الرواية الفلسفية الحديثة : فهي يمكن أن توفّر لنا رؤىً و بصائر للإطلالة على " الحقيقة " فيما يخص الحالة الإنسانية و في الوقت ذاته يمكن لها أن تنقل مفردات مثل " معرفة " و " إعتقاد " إلى مملكة متخمة بالكشف المدهش ، و كما كتب أرسطو من قبل فقد كتب ( فتكنشتاين Wittgenstein ) : " قد يفكّر المرء أحياناً أن يقتفي أثر تاريخ فكرة تختص بطبيعة شيء ما و لكن ما يفعله في الأغلب هو انه يحوم حول الإطار الذي ينبغي له الإطلالة من خلاله على ذلك الشئ " و لنقل ما صاغه فتكنشتاين بطريقة أخرى " الفيلسوف يغلّف الأفكار الكامنة في طبيعة الأشياء و يعرضها لنا معلّبة و في اكثر الاشكال توضيباً و دقّة بينما يتلاعب الروائي مع ذات الأفكار و يشتدّ تلاعبه كلّما تقدّم في عمله الروائي " . الفلسفة يمكن لها أن تسرد الحقائق الخاصة بمنظومتنا الأخلاقية و الذهنية و لكن الرواية في النهاية هي وحدها القادرة على ملامسة إحساسنا و تقديم فروض العزاء لنا عند تلك اللحظة التي تطرق فيها مطرقة القدر حياتنا و تنزع عنّا كلّ شيء يمنحنا الإحساس بوجود قيمة ما – و قبل هذا وجود معنىً ما - لحيواتنا .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram