2-3
كلما واصلنا قراءة الرسائل الحميمة التي احتوت عليها "رسائل الزمن غير الضائع"، كلما حرنا أي نماذج علينا اختيارها من الرسائل التي تقع عليها عيوننا للمرة الأولى، أنها ليست نافذة نطل منها على العالم الأكثر إبداعاً عند العديد من كتاب وكاتبات العالم، بل فيها الكثير من المفارقات والأسرار الشخصية التي أباحت بها الرسائل التي كتبها الأدباء والأديبات، الفنانون والفنانات، لحبيباتهم، أصدقائهم، ذويهم، وأساتذتهم. فبقدر ما كان مايكوفسكي، واقعاً تحت الهاجس ذاته، صريعاً للمعاناة عندما تركته "ليليا" وذهبت مع الشاعر الفرنسي بول إيلوار، إذ يكتب لصديقه "الرفيق" كوستروف: "الرفيق كوستروف.. أنني جريح للأبد.. لن أشفى من هذا الحب ...أنني خائر القوى، بالكاد أستطيع جرجرة خطاي"، فإننا نكتشف للمرة الأولى حجم المعاناة التي كان عليها أن تعيشها الفيلسوفة الوجودية وإحدى ممثلات الحركة النسوية الرئيسية في العالم، الفرنسية سيمون دوبوفوار أيضاً، وعلى مدى 17 عاماً، منذ أن تعرفت في الولايات المتحدة الأميركية في شيكاغو في العام 1947 على الكاتب الأميركي الشمالي نيلسون آلغرين، الذي كانت تطلق عليه "زوجي العزيز"، بين قوسين، لكي تخرجه من الشكوك التي كان يعاني منها، بسبب علاقتها مع فيلسوف الوجودية جان بول سارتر:" ذات مرة سألتني فيما إذا كنت طفلة أو امرأة رصينة. لا أشعر بكوني طفلة، لكني أيضاً متأكدة بأنني لست رصينة. امرأة رصينة لن تثير الدهشة عندك بهذا الشكل المليء بالألم"، كتبت ذلك بسنتين قبل صدور كتابها "النسوي" المشهور بصفته المؤسس للحركة النسوية في العالم "الجنس الآخر" (1949). بجمل تقترب من ذلك، وأكثر صدمة تكتب الشاعرة التشيلية (غير المعروفة لكتّاب وقراء العربية) غابرييلا ميسترال (أول شاعرة في العالم تحوز على جائزة نوبل): "لا يخطر على بالي أن أقول لك كلاماً رقيقاً، مانويل. ليس لأنني لا أحبك؛ إنما لأنك حطمت كل شيء عندي، الأمل والإيمان".
ليس هناك أكثر من الشاب فيدريركو لوركا تواضعاً في رسائله، ففي رسالة بعثها لأهله يتحدث عن متعته لشراء ماكنة حلاقة "جيليت" بخمس بيزتات (العملة الاسبانية. ن.و)"أحلق ذقني كل يوم لكي أواظب على كوني مقيماً صالحاً في بيت الطلاب"، وفي رسالة أخرى لا يستحي من طلب الفلوس من أهله "أتضرع إليكما أن ترسلا 150 بيزيته. لأن حالي سيئة جداً بما يخص الفلوس وقضيت زمناً طويلاً بدونها، لكي لا تقولا أنني مبذر، وحدثت لي أمور كثيرة بالمصادفة". بنفس الصورة، وربما أكثر تضرعاً، يتوسل كارل ماركس، صاحب الرأسمال، صديقه "البورجوازي" فريديريك أنغلز أن يبعث له بعض الفلوس "أمس إنتهى الفحم عندي. الجو بارد جداً. وإذا لا تبعث لي مبلغاً محترماً بسرعة، فلن أستطيع الانتهاء من مخطوطة "في الاقتصاد السياسي التي في يدي". عن الفاقة والحاجة تتحدث رسالة المغموم الرسام الهولندي فان كوخ "النجدة. أرسل لي المبلغ الذي طلبته منك في رسالة سابقة بسرعة. أنني أموت جوعاً، وصاحبة البيت تحوم عند الباب. أنها لن تتباطأ من طردي. لم أسدد الإيجار".
لكن البساطة نجدها بصورة أكثر وضوحا عند مؤسس الحداثة البرتغالية فرناندو بيسوا أيضاً، الذي يكتب في رسائله لحبيبته اوفيليا كل شيء "طفلتي الحبيبة، صغيرتي، أنني في مقهى مارتينو دي آركادا، أنها الثالثة والنصف وعمل اليوم قد أُنجز"، وعمل اليوم كان الحصول على قوته اليومي كمراسل تجاري حر وكمترجم للمراسلات التجارية في مكاتب شركات الاستيراد والتصدير. العديد من رسائله لحبيبته تتحدث عن تفاصيل صغيرة، عن حياته اليومية، عن آماله الشخصية والمشاريع التي هي "حطام".
يتبع