تمثل صناعة السينما في أفريقيا شكلاً للمعالجة والممارسة، ليس فنياً و ثقافياً فقط، بل هو فكري وسياسي أيضاً، كما يقول مباي تشام* في مقاله هذا. فهي طريقة لتعريف، و وصف، و تفسير التجارب الأفريقية مع تلك القوى التي شكلت ماضيها و تستمر في تشكيل الحاضر
تمثل صناعة السينما في أفريقيا شكلاً للمعالجة والممارسة، ليس فنياً و ثقافياً فقط، بل هو فكري وسياسي أيضاً، كما يقول مباي تشام* في مقاله هذا. فهي طريقة لتعريف، و وصف، و تفسير التجارب الأفريقية مع تلك القوى التي شكلت ماضيها و تستمر في تشكيل الحاضر و التأثير فيه. و هي نتاج لتجارب الأفارقة التاريخية، و لها مظهرها و علاقتها بالتحديات التي تواجه المجتمعات الأفريقية و ذوي الأصلٍ الأفريقي في العالم الآن و في المستقبل. و تؤلف صناعة السينما، كنتاج للخيال، في الوقت نفسه، نمطاً خاصاً من الممارسة الفكرية و السياسية. وعندما ينظر الواحد، بالتالي، إلى هذه الصناعة بوجهٍ خاص، و غيرها من الفنون الإبداعية، بوجهٍ عام، ينظر إلى التبصرات المتعمقة في طرق التفكير و العمل وفقاً للوقائع، و التجارب، و التحديات، والرغبات الفردية إضافةً للجماعية على مر الزمن. و التفكير و العمل الأفريقي وفقاً لهذه الأمور متنوع و معقد، و توفر السينما واحداً من أكثـر المواقع إنتاجيةً لتجربة، و فهم، و تقدير مثل هذا التنوع و التعقيد.
إن نسبة مهمة مما يؤلف الفكر الأفريقي و الممارسات الثقافية، و الرمزية، و الفكرية الأفريقية ــ سواء كانت شفوية، أو مكتوبة، أو درامية، أو بصرية، أو سينمائية ــ يمكن تمييزها كاستجابات وتدخلات في العوامل و القوى التي شكلت أفريقيا على مر الزمن. و قد وصف كوامي نكروما (1)، و في وقت أحدث علي مزرو Mazrui (2)، هذه العوامل و القوى، المدرَكة عموماً كثلاثي، بكونها : أهلية، عربية إسلامية، و أوروبية مسيحية. و قد تمخضت نماذج التفاعل، و التلاقح، والتوترات، و الصراعات بين هذه القوى عبر قرون كثيرة على التراب الأفريقي، عن امتداد واسع من الديناميكيات و التحولات المعقدة التي نجم عنها شكل أفريقيا في وقتنا هذا. و قد أحدثت نماذج متنوعة من الفكر و الممارسات في الكثير من حقول الحياة في أفريقيا، خاصةً حقل صناعة السينما. و تعمل السينما الأفريقية كأسلوب ترفيه. و في الوقت نفسه، تحدد نفسها كدور محوري في تعريفات، و تشريع، و أداء الفِكَر و الأيديولوجيات الأفريقية للفرد إضافةً للجماعة والإنسانية، تماماً مثل نظيراتها، التعريفات السردية الشفوية الأهلية و الأدب المكتوب في اللغات الأفريقية والأوروبية معاً. و تتفاعل صناعة السينما مع هذه الأشكال الأخرى للممارسة الإبداعية على مستوى موضوع البحث، و موضوعة، و شكل، و أسلوب، و مفهومي الفن و الفنان و دورهما في العلاقة بالمجتمع.
و على كل حال، فإن المشاركة الأفريقية في الحضارة العالمية للسينما حديثة نسبياً، تعود بتاريخها إلى الستينات فقط. و كان وضع أفريقيا الأولي في حضارة السينما هذه هو وضع المستهلك المتلقي لمنتجات سينمائية مصنوعة في المقام الأول في الغرب و من إنتاجه. واستخدمت أفلام كثيرة أفريقيا و الأفارقة، و ما تزال، كمادة لاختراع و نشر صور و معالجات عن أفريقيا و الأفارقة متعارضة راديكالياً مع تواريخهم و وقائعهم الفعلية. و بالرغم من المواجهات الفتية المتنوعة التي شهدتها سينما الأفارقة، فإنها نمت بثبات في هذه الفترة القصيرة لتصبح جزءاً مهماً من حضارة السينما العالمية التي قدمت لها ( أفريقيا ) مساهمات مهمة. وهي، على نحوٍأكثر تحديداً، جزء من حركة سينما عالمية النطاق هادفة إلى إنشاء و ترويج سينما شعبية بديلة، سينما تصحح التشوهات والنمطيات التي أشاعتها السينمات الغربية المهيمنة، سينما هي أكثر تزامناً مع الوقائع، و التجارب، و الأولويات، و الرغبات الخاصة بمجتمعاتها هي.
و نسبة مهمة من الأفلام التي تؤلف السينما الأفريقية تتقاسم القليل من العناصر مع ممارسات سينمائية راديكالية من أطراف أخرى من العالم الثالث، مثل " السينما الثالثة " كما أوضحها فيرناندو سولاناس و أوكتافيو غَيتينو، و " السينما غير الكاملة " كما طوّرها جوليو أسبينوزا و " السينما الجديدة Cinema Novo " كما بيّنها غلوبر روتشا و غيره. و هي تُظهر أيضاً تماثلات مع عمل سينمائيين بريطانيين سود و أميريكيين أفارقة مستقلين، و سينمائيين هنود مثل ساتياجيت رَي و ميرنال سين. و لا تتجلى هذه الموازيات فقط على مستوى الشكل و الموضوعة، بل أيضاً في إنتاجها، و توزيعها، و ممارسات عَرضها و تحدياتها.
و يُعد التطور المهم في الثقافة السينمائية الأفريقية، في العقدين الأخيرين، منعطفاً نحو موضوع التاريخ. و منذ ابتدائها في الستينات و السبعينات، ركّزت نسبة مهمة من السينما الأفريقية و ما تزال تركز على قضايا العنصرية، و الاستغلال و الظلم الاستعماري، و الموروث و الحداثة، والآمال، و الخيانات و الاستياءات المتعلقة بالاستقلال، و الهجرة و قضايا أخرى كثيرة تتعلق بالعدالة الاجتماعية. و ظهرت عملية إضفاء صفة التاريخ على هذه القضايا، إضافةً لإبداع قصص مستندة بشكل رئيس على أحداث التاريخ، و أشخاصه، و مواضيعه، في السنوات الأخيرة، كسمة بارزة للثقافة السينمائية الأفريقية.
و قد استحق موضوع التاريخ الأفريقي اهتمام عدد متزايد بثبات من الأفلام التي أنجزها أفارقة في السنوات الأخيرة. و الكثير منها مكرَّس للتعامل النقدي مع الماضي الأفريقي و استنطاقه لغرض النظر و إعادة النظر في أوجه ذلك الماضي من وجهات نظر أفريقية. كما تتخذ هذه الأفلام من التاريخ طريقةً لتأمل و تفهم أزمات و تحديات كثيرة تواجه المجتمعات الأفريقية المعاصرة، إضافةً للمستقبل.
لقد قُدمت قصص الماضي الأفريقي في الغالب من وجهات نظر الأوروبيين الذين استعمروا الكثير من أفريقيا. و هي تركز على قصة الأوروبيين في أفريقيا و تقدمهم كمؤرخين أصلاء لأفريقيا، و كجالبين للتاريخ و الحضارة إلى أفريقيا من دون تاريخ. و يُقدَّم التاريخ بالتالي مختزلاً إلى خدمة لتبرير مشروع التوسع الاستعماري و الاستيطاني إضافةً إلى بعثة تحضير تُصوَّر بأنها عمل خيري و حميد و عقاب من الله. و تمحو نصوص التاريخ هذه قصص أفريقيا قبل حلول الأوروبيين و العرب.
و يقدّم عدد لا بأس به من صانعي الأفلام الأفريقية الحديثة نصوصاً من الماضي الأفريقي من وجهات نظر أفريقية تعارض و تدحض التقارير الأوروبية الرسمية، و الشعبية أيضاً، و تقدم تواريخ أكثر تعقيداً و توازناً، خاصةً تواريخ العبودية، و الأمبريالية، و الكولونيالية، و ما بعد الكولونيالية. و علاقتها بالموضوع و امتداداتها الزمنية واسعة، و تغطي شخصيات و حركات وأحداث جماعية في الفترات ماقبل الكولونيالية، و الكولونيالية، و ما بعد الكولونيالية من التاريخ الأفريقي.
و تتنوع الطرق و الأساليب في هذه الأفلام أيضاً، و تتراوح بين الطرق الواقعية التخطيطية linear إلى تلك غير التخطيطية، و الرمزية، و أحياناً التجريبية. و بينما يستمد استنطاقها التاريخ و إعادة إنشائه بشكل تحيّزي و بطرق مخالفة نقدياً من مصادر مثل الوثائق الرسمية و القصص إضافةً للتقارير المركزية الأوروبية، فإن مؤسستها هي التراث الأفريقي من التقاليد الشفوية والذاكرة. و سواء كانت هذه الأفلام وثائقيةً أو قصصية، فإنها تهتم بالتأمل النقدي الهادف واستنطاق الطرق التي ضُمِّن التاريخ بها في أنظمة الهيمنة و استعباد الأفارقة و تحريرهم، و هو محفور تماماً في حاضر أفريقيا و مستقبلها.
* الكاتب من أصل غامبي، دكتوراه في الفلسفة و بروفيسور و رئيس قسم بجامعة هوارد، حيث يدرّس التقاليد الشفوية، و الأدب الأفريقي الحديث، و السينما الأفريقية و سينما العالم الثالث.
(1) كوامي نكروما ( 1909 ــ 1972 ) قائد نضال غانا و رئيسها بعد الاستقلال.
(2) علي مزرو ( 1933 ــ 2014 ) بروفيسور أكاديمي و كاتب سياسي كيني.
عن: africanfilmny.org