في نهاية حارة معتمة ووسط ضجيج مولدات الكهرباء وصراخ الصبية، كانا يقفان ساكنين كأنهما نصب تذكاري مهمل وحزين، أعمى بدين بعض الشيء وقصير، يضع يده على كتف مجنون يفعل بعض ما يفعله المجانين إلا أنه يبقى مراوحاً بمكانه بمقدار يتيح لرفيقه الأعمى الاطمئنان إلى أن كتف منقذه ما يزال بمتناول يده.
للوهلة الأولى شعرت بالصدمة.. صدمة من لا يريد أن يصدق أن ما يراه يحدث فعلاً، لم أرد التصديق بأن القدر يمكن أن يكون تعيساً لدرجة لا تترك أمام أعمى من خيارات سوى أن يضع يده على كتف مجنون ويسلمه قياده.
ثم للوهلة الثانية شعرت بالحزن والخوف، الحزن على هذا الأعمى الذي سلبته الحياة نعمة البصر ثم أوكلته لمجنون، والخوف من أن يختطفني مثل هذا القدر في يوم ما، فمن يستطيع أن يحمي نفسه من فخاخ الحياة، خاصة في بلد مثل العراق، بلد يستطيع بأي لحظة أن يحولك إلى أعمى أو مشلول أو مقطوع الأطراف أو أو أو.
ثم للوهلة الثالثة وبعد أن ابتعدت عن الأعمى وقائده، شككت بحقيقة حالهما، أو أنني أردت التشويش على الحزن الذي أراد أن يلتهمني ساعتها، وما ساعدني على التشكيك، أن مروري بالرجلين كان سريعاً لدرجة لم تتح لي التأكد من جنون القائد وفقدان بصر الـمَقود، إلا أن سوء حظي قادني ليلة أمس إلى ذات الطريق وفي ذات الساعة تقريباً، وهكذا فوجئت بنفس المشهد، بالأعمى وقائده يقفان بنفس الزاوية ساكنين حزينين تائهين ولا يربطهما بالمكان سوى قدرهما التعس.. أسرعت بإخراج الموبايل لالتقاط صورة توثق ما اعتبرته نصباً يليق به أن يوثق، لكن كاميرا الموبايل لم تعمل وقتها، إلى أن تململ الضرير فتحرك قائده عائداً به إلى بيتهما.
أي قدر تعيس يجبر أعمى على استعارة عيون مجنون (قلت لنفسي).. إذ الأعمى يحتاج من يرشده باتجاه هدف محدد، لكن المجنون عشوائي باتجاهاته ولا يمكن التحكم به، ما يعني أنه لا يصلح قائداً. على كل حال المصير التعس لهذا الأعمى ذكرني بمصير العراق، فما أشبه المصيرين، وما أشبه بلدي ـ الذي التبست عليه الأهداف والاتجاهات المتضادة حتى بات لا يستطيع تلمس طريقه ـ بالأعمى، وما أشبه تشكيلة قادة بلدي ـ التي تجمع اللص والعميل والغبي والوطني والشريف والمجرم ـ بالمجنون؟
لم يُبق القدر التعس أمام الأعمى من أحلام ممكنة التحقيق سوى أن يحظى بدقائق يقضيها خارج بيته، ليسمع بعض الأصوات ويستنشق نسيماً يخرجه من رتابة حياته المملة. ولم يُبق القدر التعيس أمام العراق من أحلام ممكنة التحقيق سوى أن يحظى بحياة لا يهدده فيها مسدس كاتم أو عبوة ناسفة. حياة لا تنقطع فيها الكهرباء ولو لأربع ساعات متواصلة، ولا يكون الماء فيها مختلطاً بمياه الصرف الصحي، حياة يشعر فيها أنه يعيش داخل وطن، لا داخل ملتقى لصوص وسفاحين.
على أكتاف مجنون
[post-views]
نشر في: 23 أكتوبر, 2012: 08:07 م
جميع التعليقات 2
سلمان
نحن كائنات خائفه بدون ذنب ارتكبته وجريمتنا الوحيده اننا خلقنا في بلدطارد لابنائه.
جمعة جهاد
الاخ سعدون هناك مثل شعبي يقول(اخرس ايكودله بأعمى)وانته جمّلته بمثل آخر(مسودن ايكودله بأعمى)وهناك من مأثور القول(الاعمى والكسيح)فما رأيك بهذا الثالوث في عالم البيروسترويكا والحرامية(هل سياسة القلم هي الكفيلة للقضاءعلى لصوص(الترليونات)ونحن ننشد في المدارس ي