TOP

جريدة المدى > عام > القصص المشطور أفقياً بين محمد خضير وج. م. كويتزي

القصص المشطور أفقياً بين محمد خضير وج. م. كويتزي

نشر في: 20 يونيو, 2015: 12:01 ص

بداية آثرتُ أن استعمل مصطلح القـَصَص(1) كمقابل لـ"Fiction" بالإنكليزية، ليشمل القصة والرواية وغيرها من الأنواع السردية. أما القصص المشطور أفقياً فهو الذي يعتمد على تقسيم القصة أو الرواية إلى شطرين ضمن فضاء الصفحة؛ يحتل القسم الأول النصف الأعلى منها،

بداية آثرتُ أن استعمل مصطلح القـَصَص(1) كمقابل لـ"Fiction" بالإنكليزية، ليشمل القصة والرواية وغيرها من الأنواع السردية.
أما القصص المشطور أفقياً فهو الذي يعتمد على تقسيم القصة أو الرواية إلى شطرين ضمن فضاء الصفحة؛ يحتل القسم الأول النصف الأعلى منها، ويحتل القسم الثاني النصف الأسفل. وهي آلية لا تنم عن لعبة شكلية ، وإنما توظف فضاء النص من أجل خرق السرد التقليدي، وإثراء التلقي، وخلق كشوفات جديدة في التخييل.
تسللت هذه التقنية إلى القصص نتيجة التأثر بما يسمى في السينما "الشاشة المقسمة" (split screen)، أي شطر الشاشة إلى نصفين لحدثين مختلفين، مما يتيح للمشاهد رؤيتهما بشكل متزامن.

 

 

 

 

يشير البعض إلى أن القاص المبدع محمد خضير قد تأثر في قصته "منزل النساء" من ناحية الشكل، وتقسيم الصفحة بالخط الأفقي، بالقاص والروائي "غابريل جوزيبوفيشي" وقصته "موبيس المتعرّي- تمرين طوبولوجي".
لكن حين رجعت إلى النسخة التجريبية الأولى من قصة "منزل النساء"، وجدتُ أن خضير قد نشرها في مجلة "المجلة" المصرية عام 1970، العدد ( 164 )، بينما قصة "موبيس المتعرّي" نشرت ترجمتها في مجلة الآداب الأجنبية ،الصادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 1975 ، بترجمة يوسف اليوسف. كما أن القصة قد نشرت بنصها الإنكليزي في عام 1974، إذا افترضنا أن الأستاذ محمد خضير قد قرأها بالإنكليزية.
وبذلك تسقط هذه التهمة المجحفة ، وتسجل له الريادة في هذا المجال، لأنه أول قاص يوظف هذا الشكل التقسيمي في قصة " منزل النساء" التي هي مزامنة لقصص "المملكة السوداء" مع أنها نشرت فيما بعد في مجموعة "في درجة 45 مئوي".
كانت النسخة التجريبية الأولى، المنشورة في مجلة "المجلة " المصرية ، تحمل مقدمة قصيرة حذفها القاص حين نشرها في الطبعة الأولى لمجموعته الثانية الصادرة عام 1978 ، وقد شرح في هذه المقدمة دواعي التقسيم العرضي للقصة قائلاً: "اقتضت دواعي الشكل في هذه القصة أن تنشطر الأحداث فيها إلى شطرين، شطر منها يحتل النصف الأعلى من الصفحة ويحتل الشطر الثاني نصفها الآخر، وكانت لهذا الشطر دواع فنية في نظر الكاتب ، فإذا كان القسم الأعلى من الصفحة يمثل جريان الأحداث في الوقت الذي تحدث فيه حاضراً ضمن حدود الوصف والحوار فإن القسم الأسفل هو تعليق الشخصية الرئيسية في هذه القصة على هذه الأحداث اتخذ صفة مونولوج منظم ، أو حلم من أحلام اليقظة امتدّ على رقعة طويلة من الزمن، وهو بدوره يكشف عن علاقات أخرى تنمي حدث القصة وتدفعه لنهايته، وهكذا فإذا كان القسم الأعلى يمثل الأشياء المنظورة بحياد فإن القسم الأسفل هو إسقاطات الشخصية الرئيسية النفسية على هذه الأشياء. هذا ما يلاحظه القارئ من خلال التوازن المنتظم للقسمين والقصة بعد ذلك لا بدّ من أن تقرأ مرتين".
هذا التقسيم الذي اجترحه محمد خضير لم يأت من فراغ أو يخلو من غائية، وهو ليس مجرد نزوع إلى الشكلية المجردة، بل جاء عن وعي فني ذكي. يتجلى ذلك من خلال العلاقة الجدلية ما بين النصفين، إذ تجري الأحداث ما بين الرؤية الخارجية للنصف الأول والرؤية الداخلية للنصف الآخر؛ وكأنّ هناك ثنائيات ضدية هي التي فرضت هذا التقسيم ، مثل الذات والموضوع ، الذكر والأنثى، الفرد والمجتمع، وغيرها.
وبذلك يكون القاص قد استغرق نحو سبع سنوات في التجريب على هذه القصة المتميزة وتطويرها إلى أنّ اتخذت شكلها النهائي في عام 1977 في نصها المنشور في مجموعة "في درجة 45 مئوي" وقد أرخها بتاريخ 1970 – 1977 ولذا كان له السبق في استعمال هذا الشكل قبل أن يجري نشر قصة "موبيس المتعرّي" التي يزعم البعض أن خضير قد تأثر بها.
إنّ المقارنة بين النسختين هي موضوع مغرٍ لكيفية الكتابة وتحولاتها لدى الكاتب.
يحمل النصف الأول من قصة "منزل النساء" الإطار العام الغني بالوصف والتفاصيل لما يجري من متوالية الأحداث في القسم الثاني. وإذا صحت المقارنة بين القصتين فيجب أن لا تكون على نطاق التأثر (لأن قصة منزل النساء نشرت قبل موبيس المتعري) وإنما تصح على نطاق اشتغال السرد ضمن فضاء النص في القصتين.
من أحدث الروايات التي تستخدم ميكانزم الشطر هي رواية "يوميات سنة سيئة Diary of a Bad Year " الصادرة عام 2007 للكاتب الجنوب أفريقي ج.م. كويتزي الفائز بجائزة نوبل عام 2003 .
تتلخص رواية "يوميات سنة سيئة" في أنّ ناشراً ألمانياً يطلب من الشخصية الرئيسة في الرواية "سينيور سي" المشاركة في كتاب يضم مجموعة من المقالات تجمع تحت عنوان:" آراء قوية" لستة من أبرز الكتاب المعاصرين. العديد من مقالات "سينور سي" سيجري نشرها في الرواية التي نقرأها.
الفصول الخمسة الأولى من رواية كويتزي تتألف من صفحات مقسمة بخط تظهر أنها مداخل ليوميات "سينور سي" الذي يكتب عن قضايا سياسية راهنة، مثل أصل الدولة والديمقراطية والإرهاب. "تحت الخط الأفقي" قصة الرجل مؤلف مداخل اليوميات. بعد الفصل الخامس يقدم خطا أفقيا ثانيا مع مستوى ثالث للنص هو قصة امرأة، آنيا، التي تعمل بنسخ يوميات (سينور سي) الذي يقع في غرامها.
إنّ الفرق بين سرد خضير وكويتزي لا ينحصر في الاختلاف الأجناسي (قصة، رواية) فحسب بل في تقنية الشطر أيضاً. فبينما يشطر محمد خضير الصفحة إلى نصفين يقدم كويتزي مستوى ثالثاً للنص.
يضم الجزء العلوي في رواية كويتزي المقالات التي كتبها بطل الرواية في مختلف القضايا (سياسة، أدب، سينما..الخ) وساهم بها في الكتاب، بينما يضم القسم نفسه في "منزل النساء" استهلالا مشهدياً على طريقة الرواية الجديدة مع راوٍ بصيغة الشخص الثالث.
وليست هي المرة الأولى التي يدخل فيها كويتزي المقالات في الرواية فقد سبق له فعل ذلك في رواية "اليزابيث كوستللو" الصادرة عام 2003 ما يقرّب نصوصه من ملامح السرد ما بعد الحداثي أو (الميتافكشن).
أما القسم الأسفل في نص كويتزي فيضم يوميات سينور سي وموظفته الناسخة "آني" التي تروى بصيغة الأنا. وفيما يلي ترجمة للمستهل في هذا القسم:
(كانت المرة الأولى التي ألمحها في حجرة غسل الملابس. كان الوقت منتصف الصباح من يوم ربيعي هادئ. كنتُ جالساَ أراقب عملية الغسل حينما دخلت هذه المرأة الشابة المروّعة. مروّعة لأنّ آخر شيء أتوقعه كان مثل هذا الظهور؛ إضافة إلى أنّ القميص الذي ترتديه بلون الطماطم كان مروعاً جداً في قِصره)(2)
يسمّي الناقد أريك بول ملجاك من جامعة أنديانا/ بنسلفانيا هذه الخطوط بخطوط الإغراء وهو يقارن في دراسة له بين قصة "موبيس المتعرّي" ورواية "يوميات سنة سيئة" لكويتزي قائلاً:" تتقاسم قصة "موبيس المتعري" لغابرييل جوزيبوفيشي ورواية "يوميات سنة سيئة" لــ" جي أم كويتزي" صفة مميزة جداً: كلا السردين يوظف الخطوط الأفقية كي يفصل عروق السرد المختلفة. ومع ذلك، فبينما جوزيبوفيشي وكويتزي يوظفان الخطوط من أجل أغراض مختلفة فإن اللعب اللغوي والبصري في كلا القصتين هو نفسه. بمساعدة تعليقات رولان بارت على طبيعة الجنسانية والتعري فإن طبيعة هذه الخطوط الأفقية تصبح واضحة: هذه الخطوط الأفقية تمثل السرد "اللامرئي" الذي يختفي وراء السرد المرئي، إنه القصص المغري الذي يغري القارئ كي يجمع معاً عروق السرد المنفصلة". (3)
تبدو الخطوط في القصة مخاتلة وغاوية للقارئ إذ أن القسمين على الرغم من اختلافهما في التبئير [ وجهة نظر الراوي] إلا أنهما يكمل أحدهما الآخر وهي خطوط تخفي وراءها بذورا سردية ينثرها الراوي في القسم الأول لتجد أرضاً خصبة في القسم الثاني.
فإذا كان محمد خضير قد شيّد "منزل النساء" من طبقتين فإن كويتزي شيّد روايته من ثلاث طبقات لتتجاورا معاً في معمار السرد الجميل.

الهوامش:
1. ورد في القرآن الكريم :"إنّ هذا لهو القَـَصَص الحقّ". وقد استعمل الدكتور المرحوم علي جواد الطاهر هذا المصطلح عنواناً لكتابه "في القصص العراقي المعاصر" كما أستعمله د. عبد الجبار المطلبي في كتابه المترجم "الوجيز في دراسة القـَصَص" الصادرة ضمن الموسوعة الصغيرة.
2. Diary of a Bad Year. Vintage Books 2007
3. Seductive Lines: The Use of Horizontal Bars by Josipovici and Coetzee, and the Art of Seduction
Eric Paul Meljac Journal of Modern Literature Vol. 33, No. 1 (Fall 2009), pp. 92-101

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. هادي محمد

    شكرا لكم استاذي العزيز على هذا المقال/الاضاءة الممتع و العميق الذي تناولتم فيه خصيصة من خصائص البناء السردي عند المبد محمد خضير .تحياتي و تقدير ي مع صادق محبتي و اعجابي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram