3-3
ونحن نواصل قراءتنا في رسائل الكتّاب والكاتبات في هذا الكتاب الفخم (رسائل الزمن غير الضائع) نكتشف أن ليس هناك من يجعلنا متاخمين لحياته أو لعالمه في رسائله أكثر من الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي كان يعتقد وله من العمر 23 عاماً كيف أن: "هذا العالم هو مملكة الاستبداد والرعب؛ لذلك علينا أن نتطلع بمن لم يسرقنا حتى الآن بسبب الاستبداد، وأن علينا الصمود و التصرف فقط عبر ما لا يسع أية إمكانية لارتكاب أي خطأ ممكن". تصورات مشابهة يشاركه فيها الكاتب الأميركي الشمالي ستيفينسون الذي يُخبر صديقه الكاتب الأميركي هنري جيمس: "أبداً لم تثر حماسي المدن، ولا البيوت، ولا المجتمع ولا الحضارة (بكل مظاهرها). كما لا يبدو لي بان قضية أرض الله البكر (كما تُعرف من الناحية التكنيكية) ستثير عندي حماساً ما". لا يفكر بهذا الاتجاه مثلاً رسام سوريالي وفيه شيء من مسّ الجنون مثل سيلفادور دالي: "لا تعنيني نوعية الرسامين في باريس، لا تهمني أعداد صالونات الرسم التي يمكن فيها رؤية الكثير من الأشياء الجميلة إلى جانب الأشياء القبيحة؛ المهم هو هذا اللمعان، القوة، الحيوية التي تبعثها باريس، فقط باريس...".
التخطيطات الأولى من أجل الاستقرار على شكل جمالي أو تكنيكي خاص، أو على كل ما يتفتح في البدايات الإبداعية نراه وسط سطور العديد من الرسائل، ومن غير المهم أن يكون أحياناً مبثوثاً بين السطور. رامبو الذي وصل إلى باريس تواً وما زال له 17 عاماً من العمر يكتب لفيرلين: "حضرتك تحملني على إعادة دعوتي: ليكن ما يكون. تلك هي كل شكواي. أبحث عن كلمات هادئة: لكن مملكتي لفن الهدوء ليست كبيرة". تكهنات شبيهة بتلك التي تحدثت عنها البريطانية أميلي ديكينسون: "لا أملك أية سلطة على نفسي، ولا أستطيع التحكم بها، وعندما أحاول التنظيم، تنفجر طاقتي – وتجعلني عارية، باد علي الهوى".
أكثر إخلاصاً للُقيتهم كانوا كتاباً مثل الألماني غوته، الذي ينصح صديقه الفيلسوف شوبنهاور: "آمل ألا تتعب حضرتك من حرث هذا الحقل الجميل، ولا بالاستمرار بتغذية أفكاره على أمل أننا خلال سنوات عديدة نتوقف مستمتعين عند النقطة الوسطية التي بدأنا منها؛ في النهاية، نحن نستلهم في الزمن القديم ذاته، وهذه الفائدة لن يستطيع أي شخص مهما كان مصادرتها منا". الشيء ذاته فعله ستيفينسون مع هنري جيمس بعد سؤاله له: "ما هو الموضوع، ما هي الطريقة التي يتغذى منها فن ما، وما هو مصدر قوته؟"، ليضيف بعد سطور "كل السر أن ليس بإمكان أي فن أن يتنافس مع الحياة". وبعد أشهر قليلة يذهب هنري جيمس أكثر بعيداً ويعترف لستيفينسون بأنه عثر على السر الذي يشغل صديقه: "أن طريقتك بالكتابة هي التبسيط وتفوقك هو البساطة".
في البحث هذا يبحر الكاتب الأرجنتيني بورخيس أيضاً: "التكثيف، هو ليس أكثر من قول ما هو جوهري. صناعة كل ما هو معاش وحيوي من القصيدة التي فيها كل سطر هو تركيب محكم للإحساس، للتعبير عن العالم الخارجي والروحي". بسنوات بعد ذلك سيكون ذلك أحد الانشغالات التي ستسيطر على المكسيكي خوان رولفو، عندما يشير بأن أسلوبه يكمن في التركيب: "غالباً أقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة، عندما أكون محتاجاً لاثنتين أو ثلاث صفحات لكي أقول قضية واحدة فقط".
أصوات أولى مكتوبة في حالات خاصة دون أن يعرف كتابها بأنها ستكون مقروءة ذات يوم، وبأنها ستضيء مثل منار أمام أولئك الذين بدأوا للتو بالبحث عن طريقهم الإبداعي والحياتي وسط الظلمات، ووسط ممالك الاستبداد الواسعة، رغم أن واحدة من تلك الكينونات التي كانت تتلمس طريقها، لمحت من البعيد ما ستؤول إليه تلك اللحظات الحميمة المسطرة على الورق، أنها أميلي ديكينسون: "في كل رسالة استحضر دائماً الأبدية لأنها الروح وحدها الحاضرة دون رفقة الصديق الجسد".
اعترافات حميمة لرسائل الزمن غير الضائع
[post-views]
نشر في: 23 يونيو, 2015: 09:01 م