غيب الموت، قبل ايام، احد اشهر المعماريين الهنود، واحد معماريي العالم الثالث المبدعين: المعمار والمنظر والمخطط والناشط المدني : "جارلس مارك كوريّا" Charles Correa (1 أيلول 1930- 16 حزيران 2015)، هو الذي درس العمارة في "معهد ماساتشوستس للتك
غيب الموت، قبل ايام، احد اشهر المعماريين الهنود، واحد معماريي العالم الثالث المبدعين: المعمار والمنظر والمخطط والناشط المدني : "جارلس مارك كوريّا" Charles Correa (1 أيلول 1930- 16 حزيران 2015)، هو الذي درس العمارة في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، وكذلك في جامعة "ميشغان" بالولايات المتحدة. كما درّس هو ايضا العمارة بعد تخرجه في جامعات عديدة، سواء في الهند ام في خارجها، بضمنها معهد "ام. اي. تي" الشهير الذي تخرج منه سابقا وكذلك في هارفارد وفي جامعة لندن وجامعة كمبردج البريطانيتين.
حاز "جارلس كوريّأ" على شهرة واسعة، وبفضل عمارته المميزة والذكية والحداثية، فانه عدّ احد اشهر معماريي بلده: الهند، واحد معماريي العالم الثالث المهمين. وعبر منجزه التصميي الغني، والمشوق اعترف العالم بأهمية عمارته وقيمتها العالية في الخطاب المعماري الحديث. وبهذا الاعتراف، فقد رد الاعتبار الى عمارة العالم الثالث، التى لطالما كان ينظر اليها بوصفها منتجاً "هامشياً"، يتبع سطوة "المركز" الغربي. وعمارة "جارلس كوريّأ"، مثلما هي ممتعة ومميزة، فانها مفعمة بروح المكان وإحترامه. وقد أضاف "كوريّا" من خلال "ريبرتواره" المتنوع والثرّ، الكثير الى معنى عمارة المكان، ودلالة المكان.
في احد اهم تصاميمه، وهو مزار "غاندي سمارك سانغراهالايا 1958- 1963 Gandhi Smarak Sangrahalaya في سابارماتي اشرام بأحمد آباد ، (وهو متحف تذكاري " للمهاتما غاندي " شيد تخليداً لسكنه في اشرام من 1917 وحتـى 1930، وبدء مسيرته البطولية نحو داندي Dandi، وقد تم افتتاحه من قبل "جواهر لال نهرو" سنة 1963)؛ في ذلك التصميم الذي اعتبره شخصيا، مأثرة معمارية، ترتقي لتكون مفخرة معمارية لنا جميعاً، لجهة تنويعات مرجعيته التصميمية، واحترامه واعترافه لمفهوم "التثاقف" المعرفي، ذلك لان تلك العمارة المعتبرة، اتكأت في اجتراح بعض عناصر تكويناتها، على تأثيرات منجز العمارة الإسلامية، وابانت، باجتهاد نادر، عن مسعى المعمار لقراءة ذكية لذلك المنجز الحصيف، بالاضافة الى تقديمه تمرينا ابداعيا في معنى حضور آليات التفسير لتلك التأثيرات وتأويلها لخدمة فكرته التكوينية.
يعتمد "جارلس كوريا" في تكوينات "سانغرا هاليا"، وتعني "بيت الناسك" على وحدة قياسية هي بمثابة خلية - جناح بأبعاد 6 م × 6 م ، ويصل عددها في التكوين إلى (51) خلية . حاول المعمار أن يستخدم في بناء الخلية الواحدة ذات المواد الإنشائية المألوفة والشائعة في العمارة الشعبية: الجدران الآجرية والسقوف الهرمية المصنوعة من القرميد والأرضيـة الحجرية والأبواب الخشبية. العنصر الوحيد والجديد الذي أضافه هي الجسور الخرسانية الرابطة بين هذه الخلايا والتي تعمل بمثابة مزاريب للأمطار أيضاً. ولقـد تعمد المعمار على اقتصار هذه المواد المألوفة والمتواضعة في تنفيذ مبناه مجارياً في ذلك ومتقرباً من طروحات "غاندي" الفلسفية البسيطة ، ولهذا فان أشكال الخلايا - الأجنحة المتسمة بعدم الحذاقة والمهارة المتقصدتين تبدو هنا اكثر من ملائمة ومناسبة لنهج "المهاتما". وعبر اقتران هذه الخلايا وتمازجها فإنها تخلق فضاءات صغيرة وكبيرة مفتوحة ومغلقة تستخدم كصالات للعرض وقاعات وأرشيف وإدارة الخ… .ويمكن أن تؤلف إحدى هذه الخلايا حوضاً تزيينياً وأخرى تنمو من سطحها الرملي الأشجار الغريبة، وثالثة مقتصرة على الصخور الحجرية، ورابعة مفروشة بسجادة الحشيش الأخضر، ومن خلال هذه المزاوجة في الترتيب فان المعمار تمكن باقتدار أن يخلق لنا تكويناً غنياً ومؤثراً بواسطة أسلوب التكرار لهذه الخلية الكتلوية - الفضائية. إن مخطط "سانغرا هاليا" المشتبك والمنسوج من الخلايا "المودولية" Modules تكسب المبنى حالة مميزة شبيهة إلى حدٍ كبير بحالة التراكيب الحية من حيث النمو والانتشار، ما منح المبنى صفة الامتداد الزماني .. والمكاني، بالطبع. وتبعاً لذلك فان بمقدور كل جيل - وفق رؤية المعمار - أن يضيف جناحاً أو أجنحة لمستجداته، معبراً في ذات الوقت عن تكريمه وتقديره الخاصين إلى "المهاتما".
في تصميم "سانغراهالايا" يدنو "جارلس كوريا" من أوج الملاءمة بين الموضوعة الوظيفية وأهلية الغرض مع براعة حلول التعبير المعماري. وفي اعتقادنا، فان المعمار أدرك هذا المنسوب العالي من الطرح جراء التحليل العميق لمبادئ الموروث العمراني التقليدي، بضمنها مبادئ العمارة الإسلامية، ومزاوجته مع متطلبات الحداثة المعتمدة على الثقافة الواسعة التي يمتلكها المصمم/ ومعرفته ومواكبته الدقيقة والتفصيلية لنتاجات المعماريين الحداثيين. فوحدة التكوين المستعملة في "سانغرا هاليا" ما فتئت تظل بسيطة إلى أقصى حد، بيد أن الفكر النابع من أسلوب تجميعها هو الذي يسم التكوين العام بهذا القدر الكبير من المهارة والافتتان. ويتعين أن نشير، ايضاً، إلى تلك البساطة الآسرة الممزوجة بهاجس الاختزال العميق لأدوات اللغة المعمارية المنطوية عليها قـرارات "سانغرا هاليا" التصميمية.
في جميع أعمال "جارلس كوريا"، هذا المعمار المهم لإقليم مومباي - احمد آباد وعموم الهند - يوجد ثمة تناغم وانسجام بين نشاطه المهني ورؤياه الديمقراطية فقد ظل عازفاً عن دعوات كثيرة ومغرية، قانعاً بإيجاد حلول ملائمة لمشاكل تخطيط مدينة "مومباي " الصاخبة والمزدحمة. ولقد استمر في هذا العمل المضني والمكلف لمدة عشر سنوات يعمل مجاناً. آملاً بأن تصاميمه سوف تقلل وتخفف من وطأة ظروف الحياة القاسية التي يعاني منها مواطنو مدينة "مومباي" البسطاء. إن عمارته - الذكية والمعاصرة، تثبت مرة أخرى بأن تقصي السمات الوطنية وتوظيفها في الممارسات التصميمية لا يمّر، (بل ولا يمكن له أن يمّر)- عبر طريق الاستنساخات النصية للأشكال التقليدية المعمارية أو في محاولة إضفاء القدسية لهذه الأشكال وتمجيدها ، والتبجح بأنها - وحدها - ملائمة ومناسبة لكل العصور والأزمنة. فجارلس كوريا يطمح ان تكون عمارته مرتهنة ببيئتها، من خلال تشكيل تكويني، يجتهد لأن نتلمس فيه حضور واع للمكان، واقتران هذا الحضور بسمات حداثية للغة التعبير الفني له. وبهذه الصيغة الإبداعية فان عمارته تظل تضيف شيئاً جديداً وطازجاً لمجرى العمارة العالمية مثرية بذلك الحضارة الإنسانية في هذا الخصوص.