محمود عبد الوهابالكتابة فن البوح الماهر والصعب، هي الحرفة الشاقة والصوت المتفرّد الأصيل، وعن أصالة هذا الصوت، كتب الشاعر الصيني " سونغ زيجينغ " في ملاحظاته: " إذا اتّبعتَ أحدهم سوف تظل دائماً في الخلف، التابو الأول في الكتابة هو أن تمشي خلف الآخرين ".
كيف يكون الكاتبُ أو الشاعرُ، حادياً لقافلة الرحلة الخيالية للروح؟: أن يفتح ذراعيه وبصَرَه وبصيرته وحواسـه كلّها للعالم، كما لو كان يعوم في مجرّة، هي قاصية هناك. إن الإمساك بجوهر الإبداع يكمن خارج الشروح والكلمات، سواء أكان إلهاماً أفلاطونياً أو حدساً برجسونياً، أو قانوناً فرويدياً، ومع ذلك تبقى ثمة عتمة، بها " تنهض الغيوم من الغابة الكثيفة للكتابة". شغلتْ عملية الإبداع الدارسين وعلماء النفس، تتبعوا مفهوم الإبداع، هذه العملية الغامضة، درسوا دوافعه: أهو إنفعال خلاّق كما يرى برجسون أم هو إعلاء للرغبات المكبوتة كمـا يفهمها فرويد، أم هو تعويض عن الشعور بالنقص عند أدلر ويونغ أم هو تأكيد للذات عند مازلو وروجرز؟. حاولوا الكشف عن هذه الدوافع بدراسة شخصيات المبدعين، والسمات التي تميزهم، درسوا مسوّدات الكتّاب والشعراء، عللوا ما يفعل المبدع على ورقته من شطب وحذف وأسهم متداخلة، تصويباً وتعديلاً. مسوّدة الكاتب هي ساحة عنائه وجهده وتوتره وإرادته في إقصاء ما هو ضالّ ومتطفل من الكلمات والسياقات التي تطلّ برؤوسها لإفساد ما هو رائع وجميل وصادق في النصوص. يؤكّد ماركيز: " يجب أن نتعلم الاستبعاد، فالكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يعرف بما يلقيه في سلة المهملات ". استبعاد ما هو سيىء في المسوّدة، يمثّل ردّ فعل دفاعي لصيانة النصّ، الحذف والشطب والتمزيق، عملية وقائية من الكلمات والسياقات الضارة. عليك أن تَسوط الجملة لتنقاد إليك. تعاليم الشعراء الصينيين كنز من الخبرة المتراكمة والمنظمة في الكتابة. في قصيدته " التنقيح " يشـير لو_جي (261 – 303) إلى ضرورة تأمّل المكتوب: يمكن للجملة أن تناقض ما سبقها أو تنتهك ما يليها .......... زِنْ كلّ كلمةٍ وفق ميزان استخدم خيطاً حاسباً حين تقصّ وتقطع من الدراسات المبكرة في العربية، حول قراءة مسودات المبدع، ما قام به مصطفى سويف في كتابه " الأسس النفسية للإبداع في الشعر خاصة " الصادر عام 1959، تناولت دراسته عدداً من المبدعين مثل عبدالرحمن الشرقاوي ومحمود أمين العالم وخليل مردم وآخرين، وخلُص، بعد استقراء مسوداتهم إلى نتائج تفسّر التعديل والحذف واستبدال الكلمات داخل أوراقهم، على أسس نفسية، ضاغطة ومكبوتة. وباحث آخر هو مصري حنّورة، اختار عدداً من الروائيين المصريين مثل نجيب محفوظ يوسف السباعي وعبدالحميد السحار ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وآخرين، درس مسوداتهم في ضوء أسلوب تحليل المضمون وتبيّن من نتائجه: إن الأفكار المثبتة في المسوّدات الأولى أفكار عامة ثم تصبح متماسكة بعد التقدم في الكتابة، كما أن الشخصيات في رواياتهم تزداد وضوحاً في المسوّدات الأخيرة. مسوّدات الكتاب والشعراء إذن، هي حقل الدراسات النفسية والمؤشر التطبيقي في محاولة إضاءة عملية الإبداع. أتساءل الآن ماذا سيفعل الدارس مستقبلاً، وقد استحوذت على الكتاب والشعراء الكتابة في جهاز الكومبيوتر، مما لا يترك المبدع للدارس أثراً لمسوّداته التي تعمل على تيسير فهم عملية الإبداع في خطواتها الأولى؟. يبدو أن المبدعين في مختلف أشكال الإبداع، كتابةً وتشكيلاً ومسرحاً وغيرها من الفنون، يبدو أن كلاً منهم يعظّم الجهد والعناء في الحقل الذي يشتغل فيه، ما دفع الروائي الفرنسي "بلزاك" إلى إهداء صفحة مسودته الملأى بالتصويب والتعديل والحذف، إلى معاصره النحّات " دافيد دانجييه " كتب تحتها هذه العبارة: " ليس النحت مقصوراً على النحّات ".
اوراق: مسوّدة الكاتب
نشر في: 1 يناير, 2010: 05:01 م