عبد الجبار عباسفي حوار مع الاستاذ جبرا ابراهيم جبرا حول تجربته الروائية قال: (اخذنا الفكرة التقليدية التي تعتبر الان من افكار القرن التاسع عشر وهي فكرة السرد وفكرة ما يسمى احيانا "اخبار" فانت تخبر وحتى حوارك يبقى جزءا من عملية الاخبار لكننا الان نحاول ان نري القارىء لا ان نخبره..)
وبديهي ان يستتبع هذا التغير في الهدف تغييرا في الاشكال والاساليب الروائية فاذا كان السرد المتقن بصوت واحد يفي بغرض الاخبار فان محاولة الروائي الحديث ان يرى التجربة ويشرك القارئ فيها حتمت جملة متغيرات في التقنية الروائية فجرتها ثورة التيار الانطباعي على رؤية الموضوعية الكلاسيكية يجملها "البيريس" بقوله: (ان الحساسية الانطباعية المشوشة الملتمعة قد هدمت في الرواية "امتياز الروائي" وادخلت اليها بواسطة نهج فني جديد أشكالا متعددة من النسبية . ويستحيل ان نحكم على الاحداث والاشخاص حين تنتقل باستمرار من ضمير الى اخر دون راحة ولا يقين . ان المؤلف ليرفض ان يلقي اضواء كاشفة فلا بد من احترام ابهام الحياة وان الروائي ليحترس من ان يتدخل في ذلك كما لا ينبغي ان ينظر الى الشخصيات او تفسر طبعا الا من خلال افكار الشخصيات الاخرى وردود افعالها . انه تبادل في امكنة الشهود الذين قد يخطئون بنية حسنة ويستبعد حضورهم كل شك في اعداد مسبق يفرضه خالق ادبي من الخارج ) و(السفينة) رواية جبرا ابراهيم جبرا الثالثة تندرج في هذه المحاولات الروائية العربية الجديدة لتمثل انجازاتهم هذه النقلة في فلسفة الرواية الادبية ما دامت الرواية العربية لا تستطيع الا ان تكون استمرارا للرواية الاوروبية وما دام (تعقيد التقنية هو العامل الكبير في بناء الرواية المثلى ) وما دام المؤلف (لا تعجبه من التصاميم الا تلك التصاميم الطليعية). واذا كانت علاقة الحقيقة الروائية بالحقيقة الواقعية كما يقول "ميشال بوتور" هي التي تحدد ما يسمونه مبحث الرواية او موضوعها الذي لا يمكن ان ينفصل عن الطريقة التي يعرض بها وعن الشكل الذي يعبر عنه فان ضرورة الشكل الروائي في (السفينة) تنبع من قناعة رسختها تيارات الفلسفة الحديثة بان الحقيقة لم تعد ذات جوهر ثابت او وجه واحد ينفرد المؤلف بمعرفته واضاءته فللواقع الف وجه تدهمنا كل مرة على نحو جديد .. واذا كان امتياز الروائي المبدع ان يسخر منه للتحكم ولو ببعض هذا الواقع وبلورته في (مصغر تشع منه المعاني) فان كل شخصية في الرواية وان تكن ماخوذة بهذا الواقع لن تستطيع ان ترى الا ما يدهمنا منه رؤية الاضطراب والتشتيت وحين تتولى شخصيات الرواية او بعضها تأليف العمل نيابة عن الروائي الذي يقف وراءها كما هو الحال في (السفينة) يمسي طبيعيا ان تخسر الحقيقة الكلية النهائية ازاء عدد من الرؤى والانعكاسات المختلفة يحاول المؤلف تنظيمها في وجهات نظر متعددة تتشابك في حوار ينقطع ثم يستأنف . ربما كانت البذرة الاولى لتعرف جبرا ابراهيم جبرا على هذا النهج الفني الجديد تكمن في معايشته للرباعيات الروائية في الادب الغربي الحديث وفي طليعتها (الصخب والعنف ) لفولكنز وقد لفت اهتمامه في تقنيتها تعدد الرواة بتعدد الاجزاء وتكرار الاشارات الى الحوادث نفسها كان جهد المؤلف ينحصر في استقصاء آثارها المتباينة على شخوص عمله. ولا ننسى ان جبرا لمس تاثير هذا الشكل الروائي وامتداده في رباعيات روائية عربية مثل (رجال في الشمس) و(الرجل الذي فقد ظله) و(ميرامار) وحلم ان تجسده اصوات (وديع عساف ) و(عصام السلمان) و(اميليا فرنيزي) و(الدكتور فالح)، ولكنه اختار ان يتولى صوتا "وديع" و"عصام" صياغة التجربة لانهما اقرب الى الذات ومشاغلها المتعددة بحيث لم يبق من اثار التقنية الرباعية سوى انفراد "اميليا " بصوت وحيد قبيل النهاية و"فلتة لسان" عابرة من عصام السلمان تشي بحنين المؤلف الى هذه التقنية التي تستعيد فيها كل شخصية التجربة كاملة بكل احداثها فهو يقول حين لاحظ الدكتور فالح يشرب ويعلق ساخرا ويكتب: (ما الذي كان يكتبه في تلك الساعات لم ادر الا فيما بعد في النهاية عندما قرأت بعض ما كتب) فهذه الاشارة في الفصل الاول توحي بان الشكل سيكون قائما على فلسفة الرباعية أي ان تبدأ كل شخصية السرد حين تكون الاحداث قد اكتملت وختمت دورتها ولكن انفراد عصام ووديع بتقديم التجربة في تناوب مستمر يرجح الاعتقاد بان المؤلف كان ميالا الى ان تروى التجربة من منظور ذاتي غنائي فقد توزعت تجربة المؤلف واحلامه بينهما واستبقى اطرافا من نقمته وقنوطه للدكتور فالح.. ولكن هذا الايثار لصوتي وديع وعصام لا ينفي ان (السفينة) تشترك مع الرباعيات المعروفة في مبدأ نسبية الحقيقة وتعدد الوان التعامل معها والتعرف عليها بحيث تمسي طريقة (وجهة نظر) انسب السبل الى تجسيد هذا المبدأ .. فهي تنويع جديد على فلسفة الرباعيات قدر ما هي تطوير لتقاليد الرواية الواقعية الكلاسيكية وقد استبدلت الرؤية الوحيدة الشاملة رؤية المؤلف الراوي المحايد المنشئ لكل التفاصيل بزاويتي رصد اساسيتين تضمان في تناولهما حرية الشخصيات الاخرى في الحركة والبوح. وما اكثر ما تناثر في (السفينة) من شارات وافكار تجعل هذا الايثار لوجهة نظر ض
رحلة في سفينة جبرا ابراهيم جبرا
نشر في: 1 يناير, 2010: 05:14 م