TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > الرحلة التاسعة حيث الغياب الأ بدي

الرحلة التاسعة حيث الغياب الأ بدي

نشر في: 1 يناير, 2010: 05:14 م

حاتم الصكركيف لي ان اعرف وانا في الحافلة المتجهة الى عمان اواخر تموز 1994 ان هذه الرحلة ستكون آخر رحلات جبرا ابراهيم جبرا؟ على مدى اربع عشرة ساعة استغرقها الطريق البري كان جبرا متعبا يردد انا لن أسافر ثانية ، ما دام السفر بالطائرة غير ممكن بسبب الحصار واضاف انه سيعتذر عن دعوته لمهرجان اصلية بالمغرب ، وكذلك عن دعوات مماثلة فى تونس والقاهرة .
 كنا -الصديق فاضل ثامر وأنا - نجاذبه الحديث ، وقلقنا يزداد كان وجهه يتخذ سمتا شمعيا، وعيناه تزدادان ذبولا واعياء. ولكننا حين وصلنا الى عمان ، واستراح في الفندق عادت الى جبرا حيويته. كنت استمع اليه في حلقة "جرش" الدراسية محاضرا ومناقشا بحماس وجدية مسترسلا متدفقا وكأنه شخص آخر. لقد بدت على جبرا علامات الوهن والمرض منذ فقد زوجته في الصيف الماضي كان واقفا يتلقى عزاء الاصدقاء ، وقد بدا عليه الهرم والتعب ولم تمهله النوبات القلبية المتكررة حتى فاجأنا بغيابه الابدي صباح يوم الاثنين 12 /12 / 1994.. نصف ساعة فقط كانت فترة نزعه الاخير، حتى ان ابنه البكر «سدير» لم يستطع الوصول اليه ، كان قد غادرنا في رحلة تاسعة الى حيث اصدقاء سبقوه : جواد سليم ، والسياب (الذي من عجب وصدفة قدر غريبة ان يكون قد مر على موته في الشهر نفسه ثلاثون عاما). ** * كثيرون لم يستوعبوا الخبر... ولم اول الامر … كان جبرا يتحامل على نفسه ويلبي دعوات كثيرة ، فقبل ايام قليلة ظهر في حفل افتتاح معرض شامل للرسم اقامة الانطباعيون العراقيون كان يبتسم ويتحدث ويعلق بحيوية وذكاء ويستعيد ذكرياته مع ابرز رسامي العراق من اصدقائه قبلها كان يتحدث في لقاء مفتوح عن فن الرسام المعروف شاكر حسن آل سعيد لمناسبة معرضه الاستعادي الشامل ... لكننا لاحظنا فيما قال مؤخرا وما كتب انه يستنفر ذاكرة . كل شيء عنده محال الى الذاكرة والذكرى.. لكنه احس بالنهاية فراح يستجمع قواه ليقول ويسترجع ويتأمل . هكذا وجدناه عاكفا على نشر سيرته الذاتية : شارع الاميرات وقبلها «البئر الاولى" وما شارع الاميرات الا الشارع الوارف الذي يقع في احد فروع بيت جبرا في حي المنصور بقلب بغداد، من منا كان يرى اسراب العشاق -كما قال لنا ذات مرة يتهادون في هذا الشارع الشاعري، ثم راح يتخيلهم ازواجا يسري عليهم قانون القدر والضرورة. * * * حين تزور جبرا في بيته ، تحس بكينونته التذكارية ايضا. وهذا ما عبر عنه اصدقائي العرب من زوار بغداد، حين كنت اصحبهم لزيارة جبرا في بيته . كنت امازحه بالقول : لقد غدا بيتك معلما يزوره السياح ! كآثار بغداد واماكنها التاريخية وكنت اعني ما اقول فمنذ ان يفتح لك جبرا الباب الداخلي للبيت ، وتسير في ممر ضيق يؤدى الى صالة واسعة مفتوحة على غرفة أخرى الى اليسار حتى تحس انك في متحف . اللوحات الزيتية والمنحوتات جزء من ذاكرة الرسمين العراقي والعربي. لوحات رسمها افضل فناني قرننا جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وفائق حسن وحافظ الدروبي وعطا صبري ومنحوتات وتماثيل لمحمد غني وخالد الجادر واسماعيل فتاح وخالد الرحال . ثم على يمينك حيث سرت رفوف الكتب كلها اهداءات بخطوط اصحابها: السياب والبياتى واحسان عباس وسهيل ادريس... وصور لابرز اصدقائه "ومعهم " كعبدالرحمن منيف والخال والصايغ ... والمهم من ذلك اعمال جبرا نفسه . فثمة رسوم في فترات مختلفة ورفوف خاصة بمؤلفاته كان يمازحنا بالقول انها وحدها تحتاج الى مكتبة خاصة وليس في الامر مبالغة فلقد تعددت اهتمامات جبرا، فكان مثقفا موسوعيا يفتقد عصرنا الى امثاله ... فهو يرسم ويكتب عن الرسم - وهو شاعر... وقاص .. وروائي... وكاتب سيناريو وهو مترجم ودارس وناقد يكتب بالانكليزية الى جانب لغته الام . وهو يكتب عن الثقافة والشعر والأدب والحضارة والفلسفة ... واذ يعمل تجد له اسما في التعليم والصحافة الثقافية ... وفي المنظمات والاتحادات الثقافية ... مؤسسا وعاملا: في اتحاد الادباء والكتاب ، ورابطة نقاد الادب ، ورابطة نقاد الفن العالمية. -ومسهم نشيط في موجات الحداثة : واكب حركة الريادة في الشعر الحر في سنواتها الأولى -وفي حركة الحداثة الثانية التي بدات بصدور مجلة "الشعر" التي كان جبرا من ابرز اركانها. - وكان فاعلا في الحياة الثقافية : تجده في الندوات آت والحلقات الدراسية وفي معارض الرسم وعروض المسرح وامسيات الشعر والنقد... في لجان التحكيم... والهيئات الاستثمارية .. والمشروعات الثقافية الكبرى... لقد كان جبرا فريقا من الكتاب في رجل واحد، و لم يكن ليمنعه اي شيء عن الوفاء بالتزام او المساهمة في نشاط.. لذا نقول انه مثقف شامل ، ليس لانه جمع اجناسا ادبية وفنية عدة في شخصه بل لانه حاول من خلال ذلك ان يكون له "موقف" في عصر تهمش فيه المثقف ، وتراجع دور الكتاب والادباء. لكن العجيب في حالة جبرا ابراهيم جبرا انه حافظ بموازنة دقيقة بين حضوره الثقافي ورعايته للحداثة والابداع ، وبين جماهيرية كتابته فهو مقروء بشكل واسع من قبل اوساط القراء والمهتمين من اجيال واعمار وبيئات وثقافات متباينة ، ولا يحظى - إلا قليل من الكتاب بمثل المتابعة والقراءة التي تحظى بها كتبه. * * * لقد كان ذا دور تأسيسي دائما : حين جاء الى بغداد بعد تقسيم فلسطين

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram