عبد الكريم هداد يعد الكاتب العراقي محيي الأشيقر، من المثقفين العراقيين المشتغلين بجدية على تأكيد حضور الإبداع، من خلال قصصه المليئة بعوالم الحياة المتنوعة، والرقيّ بفنية الخواص الشغوفة بالوضوح في إسلوب خاص يتشكل في كتابة قصة نخبوية تندفع والقارئ الملّم بعوالم وآفاق القصة الحديثة
وتنويعاتها في المتعة والتشكيل الفني المتوازن ما بين الرؤية الفنية والرؤى الفكرية بواسطة لغة رشيقة لها مذاقاتها الخاصة، عبر حكايات ضاجة بالحياة. وضمن مسيرته الإبداعية صدرت للكاتب محيي الأشيقر مجموعته القصصية الموسومة " سوسن أبيض"، التي تضم خمس قصص، وجدت فيها مقدرة إبداعية في تحريك شخوص روائية داخل مساحة القصة الضيقة، هذا ما لمسته بوضوح حال نهاية القص. يبدأ النص عند الاشيقر في إتساع حواشيه بما يضيفه خيال القارئ الى بياض الورق، الذي تعمدت فنية الكاتب تركه عند حافات قصصه، يدفع بالمتلقي نحو مساحة المشاركة وشحذ مخيلته للمساهمة في تأسيس بعد يحدده القارئ في التواصل والتفاعل مع النص، الذي يفيض بعذوبات الجمالية المعجونة في صناعة تكوينات المضمون الإبداعي، حيث هي إحدى الأدوات الفنية الشاخصة، والتي ينفرد بها الأشيقر في مسيرة تجربته الكتابية نحو فرادة أدواته الفنية، نظراً لكونه يعتمد شخوصاً مبتكرة وخيالاته القريبة من سطوع الضوء السينمائي المبهر، لكن بمواصفات لها نبض الدم الحار في سياق قواسم حية ومشتركة في الدفء غير العابر بتلك النمنمات الراشة للصور القصصية. فقد إستطاع الكاتب أن يفجر البركان الكامن تحت جلود الشخوص بما تحمله من وعي أو لا وعي لعالمها المتسارع بالإنكسارات والخيبة، وهو يعصرها في لحظة جامحة، كي تبوح عبر رشاقة لغوية عابقة ببيئتها العراقية المختلفة الإتجاهات الحياتية والفكرية. إن لغة القص في مجموعة "سوسن أبيض" لمحيي الإشيقر غير متكلفة، لكنها سلسة ومترعة بعبق ماضٍ بعيد، إنها لغة الكاتب اليومية التي نجدها واضحة في مساجلاته وحواراته العامة والخاصة، وهي بالتأكيد إضاءات لخزين قراءاته الطويلة والعميقة في تراثنا العربي بمعية شغفه العالي في التراث الشعبي العراقي، والذي نجده ملموساً ومتناثراً بشكل فني سلس داخل أطر سياقاته الهندسية الجميلة وغير المتكلفة، من خلال التشكيل اللغوي بشاعرية لها كرنفالها الخاص والمتناسقة بجماليتها المتلاحقة في عذوبة ورصانة محترفة صاغها بدراية المتمكن من أدواته عند ضرورات التوصيف والروي في تقديم حكايات ذات متعة مبهجة ومضمون روائي مختصر. لذا كان مصراً على الحضور بكم نوعي، كفنان متميز له أدواته الإحترافية الخاصة به في سبر عوالم شخوص بشرية حية ينتقيها بدقة وعناية المتمرس، وهي تمارس تناقضاتها داخل مساحة النص نحو كشف مستوراتها وإحباطاتها المختلفة المذاقات. في مجموعة " سوسن ابيض " تحرك أبطال القصص بسمات عراقية واضحة التكوين، من خلال سلوكها اليومي وخطى ردات الفعل في حياتها العامة والخاصة، التي تركها الكاتب تفيض شخوصاً مبتكرة وخيالاته القريبة من سطوع الضوء السينمائي المبهر، وهو يلتقط انفعالات شخوص مشاهد حكاياته المتنوعة، التي انسابت فيضاً من ظلال إنكسارات بشرية، يعج في دواخلهم صراخ الذات المتلونة بألحان الحزن العراقي. فها هو "فهر" بطل قصته الأولى "نار لائذة بالخزف" يملي على نفسه(بين أوان وآخر رسالة أو أكثر لمن بقي من معارفه وأصدقائه الموزعين على أرجاء المعمورة، لكنه كثيراً ما كان يتعرقل في أمر إطلاق سراح تلك الرسائل لأسباب مختلفة) إنه الإرتباك نفسه الذي نراه لدى بطل قصة "كآبة بيضاء" ( لا أقدر...، أعني لا أرغب في ممارسة الحب ونحن عراة نهائياً أو على الأقل وأنا في حالة من العري التام). إنه إرتباك في زمن المنفى، مشدود نحو بلاد ينهض فيها مارد الخراب. ومن قصص المجموعة " الدور الأخير" التي تحكي عن عراقيّ، قد إنصاع بخنوع ورغبة وشغف إعتاده، ليكون أداة مبدعة في شبكات القمع المتعددة الأشكال، متفانياً في ذلك الى حد نسيان أنسانيته التي بحث عنها متأخرا بعد ان تفانى في نسيان ذكورته البشرية طاعة لعمله. كم كان القاص في هذه القصة ممسكاً للحكاية بروي محايد من دون اي اقحام للمباشرة في الموقف السياسي، الذي يمتلكه بثبات منذ عقود من الزمن ؟ لقد كان بطل القصة يتحرك ضمن آلية عمله اليومي المتفاني به على خارطة التنكيل والاجرام في قمع الذات الإنسانية، هذا التفاني الذي إنتهى به الى ان يكون واحدا من المقموعين حين يخصى تلبية لمتطلبات عمله البوليسي! وقد نجح الكاتب محيي الإشيقر الى حد كبير ورائع في أن يكون بعيداً، في حياد تام، حيث لم يكن له صوت داخل القصة ، وقد برع في أن يوازن ما بين صور بشاعة أجهزة الرعب، وصور تجلياتها من خلال شخصية الجلاد اللاجئ في السويد والمترجمة العراقية، الكردية الفيلية، التي أصابها ما أصابها من أدوات هذا النظام، حيث سحق الجميع بمن فيهم مخالب بطشه الدموية. كان الكاتب الأشيقر فناناً سينمائياً حين صور لنا بشاعة نظام البعث من خلال إحدى أدوات بطشه ، وهي تصل أرض السويد، وكأنه يقول لقد أفسدوا حتى منافينا البعيدة. أما قصة "فاكهة الغرباء&quo
إحترافيــة خاصــة فـي سبـر عوالم شخوص بشرية حية
نشر في: 1 يناير, 2010: 06:05 م