TOP

جريدة المدى > عام > ما يزال المؤلف حياً

ما يزال المؤلف حياً

نشر في: 4 يوليو, 2015: 09:01 م

بدأت المسألة بباختين حين قال: "تقع اللغة بالنسبة للوعي الفردي عند الحد الفاصل بين الذات والآخر ونصف الكلمة في اللغة هي لشخص اخر، فهي ليست ملكا للفرد. تتخلل الكلمات آثارُ الكلمات الاخرى، آثار المستخدمين الآخرين..." هذا الكلام اوصله لرأي اخر هو: "ان ال

بدأت المسألة بباختين حين قال: "تقع اللغة بالنسبة للوعي الفردي عند الحد الفاصل بين الذات والآخر ونصف الكلمة في اللغة هي لشخص اخر، فهي ليست ملكا للفرد. تتخلل الكلمات آثارُ الكلمات الاخرى، آثار المستخدمين الآخرين..." هذا الكلام اوصله لرأي اخر هو: "ان المؤلف لا يخلق شخصياته من خيال اصيل، بل من اخيلة آخرين كثيرين.." ويضرب مثلا بان الكثير من الكلام عند دوستويفسكي مكرر وفيه الكثير من المحاكاة والتحولات لانواع من الكلام موجودة واقوال وكلمات مرتبطة بمواقف طبقية وفكرية سائدة وانواع اخرى من المواقف الثقافية. ثمة جسد جماعي وراء المفردة كما وراء النص...
قبل باختين اشار لذلك تودوروف فقال: لا توجد اشياء غير مسماة ولا اية كلمات غير مستخدمة..
وتاتي كرستيفا لتستثمر ما تم حتى الان فتقدم رؤيتها، فتصف النصوص بانها في حالة من الانتاج وتكشف كيف يتم بناء النص من الخطاب الموجود من قبل. فالكتاب لا يختلقون نصوصهم من عقولهم المبدعة ولكنهم يقومون بتجميعها من نصوص موجودة من قبل...
لكنها بعد هذا تصل إلى راي فيه مرونة اكثر، أو إلى صياغة اخرى لفكرتها، فتقول ان "النص ممارسة وانتاجية...". معنى هذا ان للنص بنية من الكلمات ومن الاقوال التي كانت موجودة.
في هذا القول جرأة، فيه اشارة إلى ان النص ممارسة وانتاجية.
معنى هذا ان هناك بنية جديدة.. ان هناك نتاجا جديدا، نصا تم عمله أو انتاجُه من مواد كانت موجودة بصيغ أُخرى. اذن الصورة الجديدة لبنية النص، هي من اسهام المبدع الاخير وانه استفاد مما ورث . اذن لا انكار لعمله، مثلما لا انكار لقِدَم المواد التي انشأ منها عمله الجديد.
النقطة المهمة الثانية هي ان كرستييفا في مقالها عن رولان بارت تمتدحه لانه وضع الرغبة في مركز اللغة، أي الرغبة بانتاج النص:
"تبدو المشكلة التي يجب حلها منقسمة إلى قسمين، الاول الرغبة، التي يندرج تحتها المتكلم والثاني هو النظام الرمزي. اسهامة بارت مفادها ان هناك "نصا ظاهرا ونصا مولدا.." معنى هذا ان العمل لا يرمز إلى المعنى المستقر والتبليغ ونية المؤلف حسب، بل يشير إلى شيء مادي أيضاً ويرمز إلى "قوة الكتابة". هذه القوة ليست من ممتلكات تلك الاعمال. الطاقة الجديدة ملك العمل الجديد.
وحين نقول ان النص صيغة جمعية، فالجمع هنا لا يشير إلى وجود عدة معان ولكن من حيث تحقيقه لجمع المعاني. فعل جمع المعاني وتحويلها إلى معنى آني، هو عمل صانع النص، أو مؤلفه أو كاتبه، كما سنوضح. لا المؤلف يعترض ولا "علم الادب" ولا اللسانيون يعترضون على ان النص يعتمد على لغة تسجل في داخلها التاريخ الواسع للمعنى لكن التاريخ الواسع للمعنى، ليس هو المعنى وحتى ذلك المعنى هو ليس المعنى الجديد. ذلك يعيش ضمن تاريخه وتاريخه في اللغة. ثم اننا اوردنا ما اسموه بـ"قوة الكتابة" وهذه القوة عمل على وجودها أو احضارها اختيار ومهارة، هما اختيار ومهارة مُنْتِج النص بصيغته الجديدة.
وهذا اوصل بارت لان يسمى المؤلف بـ"الكاتب الحديث" ولكي نكون اكثر دقة واكثر وضوحا، نرى ان يسمى "المؤلف الجديد" بـ"الكاتب الجديد".. هذا الكاتب الجديد "يرتب ويجمع دائما ما هو مكتوب ومحكى ومقروء سابقا من حيز متعدد الابعاد. وهذه مجموعة من الكتابات المتمازجة ليس منها ما هو اصيل..." ما يعنينا من كل ذلك من يجمع ويرتب ويصقل ويمنح قوة.. يمنحنا ارجحية أُخرى، يمنحنا نقطة رابعة لحضور الفاعل!
الان، سمِّهِ ما شئت، مؤلفا أو كاتبا جديدا هو له فعله الخاص الذي لولاه لا يوجد النص...
واذا استطعنا استيعاب مجمل المحمول القديم ضمن النص الجديد، فان ذلك المحمول- أو تلك الكتابة أو الكتابات القديمة والاقوال...، هي امتدادات ومغذيات لثقافة هذا المؤلف أو هذا الكاتب الجديد كما يريد بارت.
والسؤال الذي تعطينا اجابته نقطة اسناد خامسة، أو نقطة كسب، هو: من يحقق الموضوعية في الكتابة؟ لقد كانت مزيجاً ومتعددة وبلا ملامح بارزة. الذي اعطاها حضورا جديدا وحصرها في الحيز الجديد ممكن الرؤية، هو المؤلف أو الكاتب..
والقول ان النص يتكون من فسيفساء من نصوص، لا يعني اكثر من ان تلك النصوص تسهم في تقديم دوال. هي ترتبط بعموم رمزية ثقافة مؤلف النص، أو كاتبه بتعبير بارت، ان هذه الفسيفساء من الكتابات الموروثة أو المستوحاة أو الفاعلة في اللاوعي، لم تتكون عفوا. هي محصلة هيأ لها حضورا، ومنحها ماديةً موضوعية، من نُسمّيهِ المؤلف! فهو لم يمت، هو يصنع فسيفساء، هو صاحب المهارة الخاصة والمعرفة الخاصة، الذي يمزج ما في الماضي من مكنونات بما في الحاضر، حاضره هو، الصانع الماهر بتعبير إليوت عن ازرا باوند. هو ذلك الذي يصنع النص من موروثه ومن دوال متراكمة في خزانته أو ذاكرته وهو صاحب مهارة وعقل ينتجان "تأليفا"، ينتجان نصاً أو "دوالَ" جديدة.
ما حصل هو اننا لم نعد نفكر ان المؤلف يبدع من العدم أو من وحي لا هوية له أو من غياب. صرنا نعرف، بشكل نظري جديد، ان هناك مضمرات وان المعنى يتحقق بتلاعب الدوال وان الحياة البشرية لا تعدم مداليل، بل هي دائما غنية فيها...
ثمة مسالة تواجهنا وتلزمنا بالتوازن والتريث في اطلاق الاحكام. تلك هي: ان اللغة وحدها لا تصنع نصاً الا اذا ارتبطت بالأنا وهذه أو هذا الانا هو الذي يهيئ ارتباطات جديدة بمضامين اللغة وهو الذي يهيئ "المُنْتَج" الجديد الذي هو من مجموع قدراته، الحيوية البيولوجية والثقافية. المنتج هو محصلة عمل ذلك الذي نسميه بالمؤلف، المؤلف جَمَعَ بين شتات ومتباعدات الالفاظ وبين شتات ومتباعدات المعاني وبين الحياة اليوم والحيوات التي كانت.
اذن لم يمت المؤلف. هو ما يزال يمارس عمله بمهارات افضل ونوعية افضل وثقافة عصرية تفيد من المعارف جديدها وقديمها. ولا يغير من هذه الحقيقة ان كتابات غير مرئية دارسة أو موروثة تغذي كتابته. الحياة كلها كذلك لا كتابة من العدم ولا منجزات حياتنا وحضورنا الآني من العدم.
وسواء اعتمدنا النقد التاريخي وانشغلنا بمصادر النص وكيف تدرج وصوله، أو اعتمدنا التحليل البنيوي لتكوين النص، بتفكيكه..، في جميع الاحوال نظل نحترم تلك المكونات، ظاهرة أو مخفية ونبقى نعترف ايضا بوجود من اعاد صياغته أو "من صنع الفسيفساء" الذي هو مؤلف النص أو كاتبه.
لسنا بصدد اختلاف التسميات. نحن معنيون بدقتها العلمية لهذا نجد ما اشار له السلف من اللغويين لا ينأى عما يبتدعه أو يقول به المحدثون. انا لا ارى جديداً. أرى تنظيرا وعرضا حديثين. المصطلح رهن الثقافة في زمنه. فمن كنا نسميه مؤلفا، سمته اللسانيات كاتبا جديدا أو حديثا بحسب ما قال به ليونارد بارث.
التسمية، أو الفهم الجديد استفزا المنشئ الجديد، شاعراً أو ساردا. فالشاعر مثلا ليس رجلا يتحدث إلى رجال بقدر ما هو رجل يتمرد ضد اخر ميت أو سالف، بحسب جراهام ألن صاحب "نظرية التناص". الاستفزاز أو الاثارة حصلت لان الشاعر لا يجرؤ، لا يستسيغ اصلا، ان ينظر إلى نفسه كمتاخر ولا يقبل ان يحكم تامليا على رؤيته الاولى التي يفخر بانها رؤية سلف أو اسلافه (نقلا عن هارولد يلوم).
واذا نحّينا التقديس والاستذة، نجد ان ما توصل اليه اللسانيون بهذا الصدد، مثلما ينطبق على النص المكتوب هو ينطبق على العمارة. فهي أيضاً اعادة تصاميم مما رسمه وانشأه الاسلاف. هم وكتاب النص يعيدون الرؤية والفعل ويعيدون التفسير بطرق ورؤى جديدة ويوجدون "نصوصا" و"تكوينات" من مواد ومن صياغات وتفاسير قديمة. الرسم والنحت والموسيقى كذلك. قراءتنا ايضا وريثة قراءات سلفت.
في جميع الاحوال، يظل للمؤلف أو "للكاتب الجديد" "فعل" يكمن فيه عنصر التجديد أو الاضافة. وهذا هو السطوع الحيوي الذي ينشأ من تفاعل "النفسي" مع الذاكرة بخزينها القديم واستقبالاتها الجديدة. عدا هذا لن يحصل التطور أو التجديد في أي من الصناعات والاداب والفنون. علما بان الاداب والفنون صناعات من نوع خاص موادها من نتاج عقلي بعون فاعل ومشارك من الحواس. وهذه مزية اخرى تضاف للمؤلف الحي أو الكاتب الجديد.
التعددية التي اعلن عنها بارت وكرستيفا والمستقاة من باختين، انتهت في بوتقة المنشئ الجديد. فهو مؤلف أو كاتب أو صانع ماهر. يقول بارت: الرأي هو الرأي الحالي والمعنى المتكرر كأن لم يحدث شيء...، و اقول الان: ان المفردات والصور والافكار القديمة أوجدت حياة جديدة. من اوجدها؟ هو المؤلف الذي قالوا مات!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram