(15)القسم الثاني
استكمالاً لتناولنا الإدارة والجهاز الإداري في التعليم العالي، نجد من الضروري، وقبل الانتقال إلى الوقفة الأخيرة بعد قليل، التوقف وقفة مضافة عند قطّاع قد لا يكون للجهاز الإداري فيه من دور إلا في الجانب التنفيذي منه، حيث لم يستطيع تحقي
(15)
القسم الثاني
استكمالاً لتناولنا الإدارة والجهاز الإداري في التعليم العالي، نجد من الضروري، وقبل الانتقال إلى الوقفة الأخيرة بعد قليل، التوقف وقفة مضافة عند قطّاع قد لا يكون للجهاز الإداري فيه من دور إلا في الجانب التنفيذي منه، حيث لم يستطيع تحقيق أهداف القرارات المتعلقة به، نعني به التعليم الجامعي الأهلي الذي نرى أنه ساهم في العراق مساهمة واضحة في تعزيز سلبيات التعليم العالي، بل تعميق الكثير منها، والزيادة عليها، مما يمكن أن نختصرها في عمل أصحابه على ضمان الربح بالدرجة الأولى.
فإذا كان مثل هذا الهدف مشروعاً بالتأكيد كون المؤسسة الأكاديمية الإهلية إنْ هي إلا مشروع اقتصادي أو استثماري ربحي، فإن العيب يكمن لا في هذه الغاية الربحية ذاتها، بل في من يركضون لتحقيقها بأسرع ما يمكن وبكل الطرق ليكون ذلك في النتيجة على حساب الأهداف والغايات الأخرى، التي يُفترض أن مثل هذه المؤسسات/ الشركات تُؤسَّس من أجلها، نعني العلمية وتطوير البلد وتحقيق أحلام الشباب واحتضان المتطلعين لإكمال دراساتهم وتزويد السوق بالكفاءات البشرية. وحين نقول بتعارض هيمنة الغاية الربحية على أصحاب المؤسسة/ الشركة مع الأهداف الأخرى، فلأن هذه الغاية تجعلهم، في هذه الحالة، يفعلون كل شيء في سبيلها، إرضاءً لزبائنهم من الطلبة وأهاليهم، ومن ذلك بشكل خاص ضمان النجاح إلى أقصى مدياته، ومنح الدرجات العالية بدون حساب، والتساهل إلى أقصى الحدود، وربما بدون حدود في بعض الكليات، في الدوام، وصولاً إلى ارتباكه، والتسيب فيه، وهو ما نظن من الصعب على أي كلية أهلية أن تنفيه. وإزاء ذلك كان طبيعياً، وخطوة إيجابية أن بادرت وزارة التعليم العالي من سنوات بإخضاع امتحانات بعض مواد السنة الأخيرة في الكليات الأهلية لامتحانات وزارية. ولكن نعتقد أن مراجعة لما تم ضمن ذلك ولما حققه هذا (المشروع) يكشف عن أنه لم يفعل شيئاً، ببساطة أولاً لأن الالتفاف عليه، سواء من الكليات الأهلية نفسها أو ممن كُلف به من المؤسسات الأكاديمية الرسمية، أو من الجهاز الذي تولى إدارياً تطبيقه، كان أقوى، وثانياً لأن سلبيات واقع وزارة التعليم العالي، مما عرضنا للكثير في جل مقالاتنا جعلت منها أضعف من أن تُصلح وتراقب أحد مراكز القوى، وهو التعليم الأهلي، وثالثاً لأن ما يفعله (المستثمرون) في هذا القاطع هو بعض مما يفعله هكذا مستثمرون في جميع وزارات ومؤسسات العراق من العمل على الربح بجميع السبل.
وقفتنا الأخيرة، هي عند الجهاز الأمني للجامعات والكليات. وبداية يجب أن نقول إننا ونحن ندخل لأي مناسبة وغرض مكاناً، مطاراً أو دائرةً أو سوقاً أو معرضاً أو كلّيةً أو ما أشبه، يجب أن نكون مسرورين ومطمئنين حين يتم تفتيشنا أو تفتيش سياراتنا، ولا يجب أن ننزعج من ذلك، ببساطة لأن تفتيشنا يجعلنا نطمئن على توفر الأمان في ذلك المكان. بعباة أخرى يجب أن لا ينزعج أو يتضايق أحد من الإجراءات الأمنية التي تتم في مثل هكذا أماكن ومناسبات، بل في غيرها، ولكن حين تتم بشكل صحيح، وهو ما نشك فيه أحياناً، خصوصاً حين نحس ان بعض ذلك يتم ارتجالاً. فقد صار معروفاً أنْ ليست هناك من تعليمات واضحة ولا نظام متّبع في تطبيق أي إجراء أمني في حياتنا المدنية، وأقول في حياتنا المدنية لكي لا أقحم نفسي في ما لا شأن لي به من الجيش وجهاز الأمن ذاته، مما يرتبط بالأمن الداخلي والخارجي الذي يجب أن لا يحشر من هو غير مخوّل نفسه فيه، وفي الوقت نفسه يجب أن نكون مؤيدين له. وأعود إلى قولي بأنْ ليس هناك من نظام متبّع في تطبيق أية إجراءات أمنية في حياتنا المدنية. هذا في الواقع ينطبق على كل حياتنا وليس في جانبها الأمني فقط، أعني الدوائر والمراجعات والسوق والتقديم على أي شيء من عمل أو دراسة، إلخ، بحيث صار عليك، حين تذهب لفعل أي شيء: العمل، أو الدوام في دائرتك، أو مراجعة دائرة ما، أو التقديم لجهة لاستخلاص أوراق معينة من هوية أو شهادة جنسية أو جواز سفر..، أو التسوّق، أو حتى الخروج إلى الشارع، نقول صار عليك، حين تذهب في أي يوم إلى أي مكان لعمل أي شيء، أن تعرف ما هو نظام وتعليمات ذلك اليوم في ذلك المكان الذي تريد الذهاب إليه: فعليك أن تعرف كيف تركن السيارة، بغض النظر عن الالتزام أو عدم الالتزام بنظام مرور أو غيره، وكيف تدخل إلى الدائرة أو السوق، وماذا تهيّئ من أجل ذلك من أشخاص وأوراق ومال، وكيف تنتظر.. إلخ. فضمن التنوع بالأنظمة والقوانين والتعليمات والإجراءات الأمنية، معروف أنك في مراجعاتك لبعض دوائر الدولة مثلاً قد تجد مسموحاً لك أن توقف سيارتك أين ما تريد، بينما تجد ذلك في مراجعة دوائر أخرى عدم السماح لك بذلك، وقد تسمح لك دوائر ثالثة بإيقافها في منطاق إيقاف خاصة (كراجات)، ومن أطرف أنواع هذه الإجراءات أن هناك دائرة معينة لا تسمح لك بالتوقف ولا تمنعك من أن تتواجد بسيارتك ولكن بشرط أن تبقى تدور بها في المنطقة ولا تتوقف، ومثل هذا التنوع غير الموجود في أي بلد في العالم، ينجر على كل شيء، كما قلنا. توجّهت يوماً كابساً علمياً على مناقشة اطروحة دكتوراه في الجامعة العراقية في الأعظمية، وحين اقتربت من الفرع المؤدي إلى الجامعة منعتني السيطرة من الدخول، ولم يفد كتابي السري الذي أنا مكلّف فيه من الوزارة بعمل الكابس العلمي في ثني السيطرة عن منعي من قطع مئات الأمتار تحت أشعة الشمس، فكان عليّ أن أركن سيارتي في موقف سيارات قريب وأستقل سيارة أجرة، تصوّروا التعذيب والإذلال غير المبررين، لأصل إلى الجامعة على بعد مئات الأمتار. وشبيه بهذا حدث لي مرة مع أمن جامعة بابل، حين أردت الدخول بوصفي رئيس لجنة مناقشة اطروحة دكتوراه فيها، فأخذ حرس بواباتها يُرسلوني من بوابة إلى أخرى حتى فقدت صبري وقررت المغادرة والعودة إلى بغداد ممتنعاً عن حضور المناقشة، وهو ما كان سيحدث لولا تدخل أشخاص من رئاسة الجامعة عمادة كلية الاداب فيها.
إذن، أنت لا تعرف قانوناً موحّداً لأي شيء يسيّر الحياة اليومية في العراق، بل عليك أن تعرف القانون أو النظام المتّبع أو الذي يجب أن تتصرف وفقاً له في كل يوم وفي أي مكان وأنت تقضي أي حاجة: وتحديداً، كما قلنا، حين تريد أن توقف سيارتك، أو تريد أن تدخل دائرة أو تريد ان تُصدر شيئاً من هوية أو ما أشبه، أو حين تريد أن تسافر أو تريد أن تحوّل مالاً وما إلى ذلك. وواضح أن سبب هذا كله هو عدم وجود قوانين وأنظمة موحدة تنظّم هذه الأمور، بل هو أمر متروك لمسؤولي أي دائرة أو منطقة، مديراً أو قائداً أو ضابطاً أو مفوّضاً أو حتى شرطياً أو جندياً. ومثل هذا القانون اليومي يصل حتى دائرتك وبالنسبة لنا كلياتنا وجامعاتنا، كما هو حال كليات مجمع جامعة بغداد في باب المعظم مثلاً. فعليك ان تتوقع في كل يوم تذهب فيه، تعليمات جديدة لدخولك إلى المجمع لذلك اليوم، وانسَ تعليمات اليوم الفائت، لأنها معرضة للتغيير ليس في كل يوم، بل لا نبالغ إذا ما قلنا في كل ساعة. أمر واحد لا يتبدل في ذلك وهو أنّك يجب أن تعاني وتُرهَق، وقد تُذلّ، ولا يهم الجهة المعنية، عميداً أو مدراء أو مسؤولاً أمنياً أو ضابطاً أو جندياً، أن تكون، وأنت تلقى هذا، أستاذاً أو كبير سن أو امرأة حاملاً مثلاً، وكل ما عدا ذلك هو متغير. فعليك أن تعرف كيف تدخل، وما هو الباب المسموح لك دخوله والمكان المسموح إيقاف سيارتك فيه، وكيف توقفها وما المطلوب تقديمه لحرس الباب، وكم سيفرض الجهاز الأمني، وربما ضابط ذلك اليوم، عليك من مسير لكي تصل كليتك، وربما حتى قسمك.. وإن أحسست بأن كل هذا إنما هو عيب وإتعاب لك وإهانة لك وعقيم من حيث الفائدة سواء من ناحية توفير الأمن لك أو تنظيم أمر ما، فلا تفكّر أبداً بأن تلجأ إلى مسؤول، عميداً كان أم غير عميد في جميع كليات المجمع، ونظن الأمر ينسحب على جميع جامعات وكليات بغداد وغيرها، لأنك إما أن لا تجد من سبيل إليه، وإما أن تجده لا يقدم لك أي شيء، أو أن تجده حاضراً كالغائب، أو لا نبالغ إن قلنا قد تجده مسهماً ولا نقول مستمتعاً في مثل هذه الإجراءات المتعبة كما هو حال الغلق المُخجل للباب ما بين كليتي الآداب واللغات مثلاً. وإلا بربكم هلاً خبّرتموني أين يكمن تميّز إنجاز الجهات الأمنية حين تحافظ على أمن المجمع ما دامت هي لا تستطيع أن تحقق هذا بدون غلق الطرق والأبواب وتعذيب علماء العراق؟ أليست مجموعة من الكشافة أو الطلبة قادرة على فعل هذا؟ هل هو مشروع أن تفخر هذه الجهات بتحقيق الأمن لنا بهذا الشكل؟ بالتأكيد لا.. وهو الأمر الذي يذكرني بإعلان السلطات الأمنية في البلد في إحدى المناسبات بنجاح الخطة الأمنية، وحين تسترجع تلك الخطة تجدها قد اعتمدت على منع التجول ليومين متتاليين؟ هل هذا معقول؟ الحقيقة نحن لا نجد في الكثير من مثل هذه الإجراءات الأمنية ما يساعد على توفير الأمان للأساتذة والطلبة، بل هو عندنا لتعذيبهم، أولاً لأن الإجراء الأمني الصحيح والناجح هو الذي يوفّر لك الأمن والأمان دون أن يؤثّر فيك وفي حياتك ودوامك سلبياً، ولأن هذه الإجراءات تتعدى في كثير من الأحيان الحاجة الأمنية فعلاً، ولنا هنا نتذكر التفاتة رئيس الوزراء السابق، المالكي، التي سيبقى يتذكرها الجميع، حين اكتشف، بعد ثماني سنوات فقط من حكمه، أن بعض السيطرات تزعج المواطنين وتضايقهم، وعسى أن يكتشف يوماً مسؤول في التعليم العالي أو الجامعات او الحكومة ما تفعله بعض الإجراءات الأمنية من مضايقة وتعذيب وربما إذلال للأستاذ الجامعي. وفي كل هذا نحن أبداً لا نتضايق من إجراءات يقوم بها رجال أمن حفاظاً على أمننا وأماننا. فهذا شيء وما نتكلم عنه شيء آخر.