إحدى الجمل الاستفزازية الرائعة التي تحمل أكثر من معنى، صرح بها ذات يوم ،وفي حوار معه عن المنفى والكتابة، صاحب النوبل ماريو بيرغاس يوسا ، قال: "من لم يشعر بالراحة في مكانه فليغادر!"، جملته هذه التي جاءت رداً على سؤال الصحفي له، لماذا فضل صاحب "المدينة والكلاب"، العيش متنقلاً في المنفى، أقول جملة مثل هذه تتضاعف قوتها إذا عرفنا إن الكاتب البيرواني ذاته تشبعت حياته بالسياسة حتى أنه كتب كتاباً حمل عنوان "سمكة خارج الماء" ليصف حاله عندما كان منغمساً بالسياسة، وكيف أن السياسة أخذت الكثير من وقته، أخذت منه ماء "الأدب" حتى شعر بالاختناق مثل سمكة: خمس سنوات ولم يكتب حرفاً أدبياً واحداً، خلال الفترة التي كان منشغلاً فيها في التحضير لحملته الانتخابية لرئاسة البيرو. على أية حال فشل يوسا مرشح الرئاسة آنذاك، واكتشف أنه لا يمكن أن يكون إلا كاتباً ناجحاً، وليعرف من جديد أنه ككاتب يخدم بلاده والإنسانية أحسن ولا يهم أين يعيش، وأن يقرر الإقامة في إسبانيا، ويحصل على جنسيتها. في بداية حياته اختار يوسا باريس وبعدها برشلونة، وهو كاتب ناضج اختار مدريد، بعدها جاءت لندن، الآن نيويورك، وفي كل ذلك كان مثل من "سمكة" تبحث عن مائها، فمن يشكل الأدب بالنسبة له الهواء الذي يغلف حياته، لا يهمه المكان الذي يُكتب فيه، إنما نقاء الهواء الذي يتنفس منه، الذي هو شرطه الإبداعي. فما هي قيمة عمل لا يتنفس هواءً حراً ولا يُكتب بحرية تحت سلطة ديكتاتور أو تحت سلطة محرم اجتماعي، أو تحت خدمة حكومات طوائف وعنصرية؟ هل يخدم هذا العمل أحداً وهل سيُشكل وثيقة لثقافة بلد وللإنسانية؟ ماريو بيرغاس يوسا عرف بأنه لم يكن بإمكانه كتابة "المدينة والكلاب" و"حديث في الكاتدرائية" و"البيت الأخضر"، لو لم يعش في منفاه الباريسي آنذاك، بالقدر نفسه عرفه صاحب نوبل آخر والصديق اللدود ليوسا، الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز، وحتى عندما قرر صاحب "مائة عام من العزلة"، العودة إلى كولومبيا بعد حياة منفى طويلة وبنى بيتا له كما تمنى دائماً في مدينته الكاريبية قرطاجة الهنديات، لم يشعر بالراحة، أتذكر تهديداته في أكثر من مناسبة، عندما قال بأنه سيضطر لمغادرة البلاد "كولومبيا" مرة أخرى، لأنه لا يملك الهدوء الذي يحتاجه ليس للكتابة فقط، إنما حتى "للغناء" والعيش براحة بال: مرة أخرى "المنفى"، وهذا ما فعله، عاد ماركيز إلى منفاه في مكسيكو سيتي ومات هناك. وهو ليس الأول الذي بحث عن بلاده خارجها، قبله بحث جيمس جويس عن مدينة "دبلن" التي كرهها بقوة، خارج دبلن. المتعصبون من أصحاب النزعة القومية اتهموا صاحب "عوليس" و"صورة الفنان في شبابه" و"ناس من دبلن"، بالخيانة طبعاً، ولكن جويس وماركيز أو لاحقاً بيرغاس يوسا كما غيرهم عاشوا في المنفى، خدموا بلادهم بالذات في خروجهم، لأنهم استطاعوا أن يكتبوا ما لم يستطيعوا أن يكتبوه في "الداخل"، فبالتالي تأتي القيمة الإبداعية والجمالية في النص الذي أنجزوه ولا يأتي تقييمنا لهم على أساس مكان أين يعيشون عندما كتبوا ذلك. ما فائدة بقاء مبدع في ما يُسمى "الوطن" اذا لم يستطع الإبداع أو إنجاز ما يريد بحرية وبدون ضغوطات. فمبدع يغادر ليكتب بحرية وليتحدث بصوت عالٍ، أكثر فعالية من "مبدع شجاع" تحت الأرض أو مبدع حي يعيش بفم مغلق وقلم جاف. المسألة ليست بالتالي هي النفى "الجغرافي" للمبدع كاتباً أو فناناً، بل هي مسألة الإبداع بحرية. وهذا ما جعل صاحب "الحرب في نهاية العالم"، ماريو بيرغاس يوسا يقول جملته تلك. بالفعل: من لا يشعر بالراحة في مكانه فليغادر.
من لم يشعر بالراحة في مكانه فليغادر
[post-views]
نشر في: 7 يوليو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
سعيد فرحان
ما قيمة الوطن اذا كنت تعيش فيه بحالة خوف دائم واي وطن ذاك الذي يذكّرك كل يوم انك مواطن من الدرجة الثانية لانك من الاقليةواذ لم تطلق لحيتك فانت متهم ولن تثبت براءتك ومن تكشف عن شعرة واحدة من شعرها كمن شاركت في قتل جدي... . وطني حيث اعلق قبعتي .لك مني ك