(ليست الأساطير سوى نصوص من عبادات الأسلاف)
-هربرت سبنسر-
يتزايد اهتمامنا بتداول وتناول الأساطير،في خضم ملحوظاتنا النفسية(السايكولوجيا) للفنون ونواتجها،عبر تراتيب وتحسسات خلاصات وعينا بتراكمات أثر ووطأة الماضي،بما يتاخم أو يداني فك
(ليست الأساطير سوى نصوص من عبادات الأسلاف)
-هربرت سبنسر-
يتزايد اهتمامنا بتداول وتناول الأساطير،في خضم ملحوظاتنا النفسية(السايكولوجيا) للفنون ونواتجها،عبر تراتيب وتحسسات خلاصات وعينا بتراكمات أثر ووطأة الماضي،بما يتاخم أو يداني فكرة أصل وجوهر الوجود،كونه(أي الماضي)الوعاء أو المصب الذي تتماثل فيه وتترّشح كل تلك التراكمات والتوافقات الذهنية والتاريخيّة،وبما فيها معادلات التفكير الجّدي بما سيؤول إليه مستقبل الحياة برمتها.
وإذ نحتمي-هنا- بسواتر الأسطورة،من باب اتخاذها نسقا ونسغا أوليا ودريئة قادرة على الدفاع أوالاستمكان في تقيم موجزات القادم من تخاطرات وتفوّهات ما أرادت البوح به مجموعة الأعمال المتحفية التي قاد توافداتها-بجهد ثراء وعي ماثل،وبنود ثقافة عميقة ومتنوعة-الفنان التشكيلي(كريم الوالي- تولد الكوفة/1960)لامست مرامي تخاطراته تلك، وعمقّت من حدوسه التفاوضيّة في كوامن لجُج البحث عما يميّز ذاته التائقة -دوما- لركوب موجة الاختلاف وتأملات التجديد بغية الظفر بضرورات فهم معادلات التغيير التي ستحفّز-حتما- وتزيد من أواصر(أكسير) فعل ونبض التواصل الحيّ والحيويّ في عموم مفاصل الحياة،بعيدا عن ركود ترادفات السائد والمألوف والتقليد في محافل التعبير بالرسم ونواحي التشكيل لدى الكثيرمن الفنانين،بل،بردود السعي ومتعة الوصول الى حوافل وابتهاجات تطلعات(الوالي) الواثقة في مجمل حيثيات وامتدادات محاولاته السابقة (معارض ومشاركات كثيرة داخل وخارج العراق) واللاحقة في لوازم وخواطر الكشف عن أصل شفرة ذلك الوجود التي تشاغلت فيه هذه النخبة من أعماله الأخيرة،التي دعته لخوض تباريات إبداعية متقدمة عبر إقامة معرض فني كبير،زها معلقا، وبشكل متواصل ،طوال الأشهر الأخيرة من العام الماضي على جدران متحف تريتون للفنون المعاصرة/كاليفورنيا( TRITON- MUSEUM OF ART) حاملا عنوان( شفرة الحضارة- Civilization Code)وقبل أن نعبّد الطريق لخطوات الدخول،ومن ثم التغلغل في ثنايا وتفاصيل تلك التنقيبات التشكيلية،والتسميات المقترحة كعتبات ومساند لفهم مشترك ما بين العمل الفني الذي ينشده(كريم) وما بين جدارة الرائي وجديته في معادلة ذلك الفهم.
شظايا الأسئلة..
مرايا الموت
يجدر أن نقول-مجددا- بأن تأريخ إعلان الانعتاق من قيود ومحددات تقديس الإنسان جراء أمراض التشدّد والعنف وشهوات القتل والعدوان التي تسكنه،لا يمكن لها أن تحدّ وتمنع من الصعود والتسامي به رمزا ومرتكزا للكون بأسره،ضعف أم تقوّى،فهو الجُرم الصغير الذي ينطوي به العالم الأكبر بحسب ما يقوله المتصوّف المعروف(محيي الدين بن عربي).
فمنذ أول خلية تنفسّت على كوكب الأرض،وذاقت طعم الحياة،قبل أن تنمو وتكبر وتتجسّد لكي(تدوخ) بهموم أسرار الكون وحركة الكواكب،ومن ثنيات لوافح الموت واستبدالات خُدع فكرة الخلود المادي،حتى اندلاقات العواطف وسواكب الظنون ومتواليات الخوف،وصولا الى غوامض اللا نهاية،وشكوك اللا ثبات وبراعة اللا جدوى وكيفيات القبول بها -قسرا- خارج تغطيات الإرادة،بل،بتعامدات اليأس،فضلا عن تصادم الأحلام ببعضها،وغيرها من ظواهر وتعليلات تعاند فعل الريح ومجاهيل معرفة ممتلكات السماء،كلها تحّف وتنهض بحثا عن تلك الشيفرة التي تحيط بعالمنا،وعبر مجترحات،أضحت تتحّتم علينا الوقوف بثبات،وثم التأمل ومن بعده الانتباه فالتركيز الأمثل في أصل الفكرة ونبل الهدف الذي جرى رصده وتحديد مدياته من خلال فرضة وشعيرة معرض(كريم الوالي)هذا،المسكون بفيوضات وعي كونيّ متراكم،جاء ينوء بحمل همٌ معرفي وحضاري أثيرين على حد سواء.
تتجلى لواحظ هذا المتحف التخيلي -عبر مناشدات اثنين وثلاثين عملا،بقياسات مختلفة،وبمواد هي الأخرى مختلفة وبتقنيات متنّوعة-بفرض عالم من جمال خاص يتسم بعمق الرؤية،وأحيانا بغموض محنّك يشي بنوع من ذلك التصوّف الممهور بتبادل لحظات من التفكير الحرّ،حيال الكثير من أسئلة صريحة وأخرى غامضة،تحتكم في الإجابة عليها تقادمات اكتشافات قديمة ومستمرة في مستعمرة(كريم الوالي)التجريبيّة والمتأملة للكون برمته،وللكثير من نواحي الحياة الأخرى،تلك التي تتعلق بدواعي معرفة طقوس السحر وقراءةالكف،بل،حتى النقش على الوجوه والأجساد، كماهو-أيضا- حال تنّوعات العلاقات ما بين الظواهرالطبيعية المعروفة بتناغمات موسيقاها البدائية،ومديات تأثيراتها على السلوك البشري عموما.
ملاذات البحث
عن جدوى
غالبا ما تسطع حالات من الهيام المجدي والواضح،حتى في أقصى حالات غموضه،وبما يشكّل دافعا وحافزا فعليّا في مرتسمات(الوالي) وملاذات بحثها ومخارج تدقيقها -كما أشرنا سابقا،ونوهنا ضمنا- عبر نجاحه القائم على التصدي بالبحث اليومي والمستديم بدقائق الأمور عن أصل وفصل أسرار تلك الشيفرة الكونية،التي منها قامت الحضارة،وعليها تتكّسر أشرعة حياة الإنسان بالموت،وما من خلود يشفع له،سوى رفع راية الدفاع عن مرامي ذلك الجمال الأصلي والحقيقي،وعلى منوال ما تذود به أعمال (الوالي كريم)وتدافع عنه من خلال منجزاته التشكيلية،على مختلف مشاربها القصدية والتحليلية والتنبؤيّة،ليس في مبحث متحفه التخيلي هذا،بل في عموم تجلياته تحفيزاته البصريّة وذاكرته المعرفية، والتقصّد وبما يعيد إليه ثقة التفكير- في الكثير من الأحيان- بمعنى لذة الحصول على الجدوى،حتى ولو لمجرد المثول لشرف المحاولة ودواعي ألق التفكير بمثل هذه الإشكالات التي أرّقت من قبل الكثير من الفلاسفة والمفكرين والفنانيين،فيما لم تنطفئ جمرة الجدوى عند(كريم)ولا أعتقدها ستنطفئ،أن لم تستعر و(تتجمّر)أكثر،ما دام يحمل هذا الإصرار والتناغم الروحي والظمأ الشديد في فك بعض ألغاز الكون،بغية الظفر بتلك الشفرة،التي يراهن-سرا وعلنا- على انّها كانت السّر الكوني لبداية الخلقية،ويتوّقع أن تكون نهايته.
دأب فلسفي ومعرفي كالذي يسير على هديه هذا الفنان المخلص لذاته،مثلما هو مخلص لكل ما يحيط به، يتطلّب عناية وصبرا ونبوغ تأمل وغنى روحي وتوحدا ومراس خبرة في ترويض النفس على التفكير وقدرات التحريض على إمكانية استثمار كل ما متاح من مناخ درامي،يرمي في الإبلاغ عن وحدة الكون فلا تشخيص فعلي،يقطع صلة الوصل ما التأمل والتأويل والمكان المُعدّ والمقترح من عنديات الفنان،وهو يحرص على خلق حالات مما تُسمّى بأدبيات علم النفس التحليلي(جماعة فرويد) بـ(التداعي الُحرّ)،بغية خلق حالة من التماهي الذهني ما بين الواقع المحض ومتسلقات الحلم ومتنمياته المحلقة في عوالم متخيلة،وان كان لها وجود جذر واقعي يساند لذة ومتعة تلك الأحلام،لكن يبقى الهدف الأهم من تلك التداعيات الحُرة،هو زيادة فُرص اللا توقع،والتشبث بفكرة الشرود والتخلص من وطأة الواقع،التي تقارب أو تماثل فرصة البحث عن ملاذ وخلاص،وأن كان مؤقتا حتى.
الغياب الرمزي للإنسان
بيد أن مقتربات (كريم الوالي) وتصوراته ترنو وترمي الى نحو مهابات ومثابات أعم وأوسع،من مجرد التخلص من موقف أو حالة أو حدث طارئ قد يمرّ بها إنسان ما،ولعل مرد هذه السعة وهذا التعميم في أعمال معرضه(شفرة الحضارة) يعود الى غنى تأملاته وكونيّات لحظاته المصيريّة والحاسمة،مرهونة بنوازع ومعتنقات فلسفية وروافد معرفية بحته،ومساند تعبيرية قد لا تماسس-لا من بعيد ...ولا من قريب- فكرة ما ينادي قائلا بيأس وقنوط:( يا لها من جدوى غير مجدية !!).
لعل تكرّار الرمز يُمثل تأكيدا لمعناه،وأن الفعل هو بداية الوجود ومنه انبثق الفكر بحاصل إنتاج مجموعة النُظم والرموز والدلالات وتحوّلاتها وفق مقتضيات وطبيعة التفكيرالجمعي لأي مجتمع،كما أن الميول والاتجاهات والطبائع العامة والخاصة،لها كامل التأثير على سلوك الانسان-الفنان في الوصول الى اسلوبه الخاص،رغم قدرة تماهيه مع العام في تبني الإشارة كونها نسقا لعلاقات ورموز أضحت هي (أي الاشارة)-في حالات كثيرة-أهم من الفرد نفسه،في وقت لم تزل فيه الخبرة البشرية ناقصة في فهم دواخل وأعماق النفس ودوافعها وأهدافها،لكن الإنسان في محميات(كريم الوالي) التنظيريّة ومتوالياته التجريديّة البحتة،وبعموم فهم عام لدخائل مقاصد محسوبة يُحيي الفنان،إنسانه متماهيا بحضور غياب رمزي تام،فلا أثر لأي تجسيد أو ملمح يفضح مدائح تلك النوايا،بكامل استعداداتها التعويضيّة ووثوب أسئلتها التحريضيّة،متجسّدة أومستلة من عناوين مثيرة ومقصودة تتوافق والموضوعات التي يجترحها كما في عمله المعنون(عرب-كود)وآخر يُعد الأساس في بنية هذا المعرض حمل عنوان متداول هو(البار-كود) لكنه حتمي ودال،مع ما يؤكد ويزيد من وطأة ذلك الغياب الأمثل الذي يفرضه(كريم)على ملاك جميع أعماله،كما في عمل تركيبي(أنسليشن)،منفذ بمواد(حديد/حجر/زجاج) اتخذ من اسم(لوح الله المفقود) عنوانا له-مثلا- كذلك عمل معماري آخر تشّكل من مجموع عشرة مكعبات تماثلت مع شكل الزقورة السومريّة،كان قد اقترح لها عنوانا هو(زقورة الوصايا العشرة)،وأعمال فضلا عن أعمال لصق(كولاج) تنوعت بامتدادات أفقية وتراتبات حدسية وطقسية،قدحت-جميعها- تحتفل بتجربة عراقية خالصة،عالمية-كونية بمساعيها وصدقية تطلعاتها،لتزيد من رصيد(كريم الوالي)وتضعه اسما بارزا في خارطة التحديث التشكيلي الحالي بامتياز مصحوب بوعي يرى أبعد وأعمق من مجرد النظر الى الأشياء والأفعال كم هي.