يكفي ذكر اسم الفنان كَيس فان دونغن (1877- 1968 ) أمامي كي يجعلني ذلك أتلفت وأتخيل لوحاته المشرقة بضوء مخملي وبوهيمية أنيقة وأتذكر نساءه المشعات بملابسهن الأرستقراطية وجاذبيتهن التي جمعت بين الحضور الكبير واللذة الطاغية، أسمع وقع خطواته في مرسمه الباريسي وهو محاط بلوحاته التي تطل منها نساء بعيون كبيرة محاطة بهالة من الضوء الملون.
لا يمكن لرسام آخر (اذا أستثنينا ماتيس) أن يجاريه وهو يسكب ضوء روحه على قماشاته التي امتلأت بنساء عاشقات ومغامرات وجدن ضالتهن وسط مرسم الرسام الأنيق الذي يشع عطراً وترفاً وجاذبية. هكذا كان شعوري وأنا اشاهد المعرض الكبير الذي ضم لوحاته في متحف بويمانس جنوب هولندا حيث عرض اكثر من ثمانين عملاً من أعماله التي رسمها هذا الفنان الهولندي في مدينة باريس، والذي يعتبرعلامة فارقة في تاريخ الفن بسبب خصوصيته الشديدة وأعماله المتفردة ذات الطابع الأحتفالي المرح والوجوه الدائرية التي يعلوها الضوء والترف.
لم يتوقع ابن صاحب مصنع البيرة في مدينة دلفسهافن الصغيرة - أقمت فيها شخصياً أول معرض فردي لي في هولندا سنة 2001 وقد أصبحت الآن جزءا من مدينة روتردام - أن يحالفه كل هذا النجاح وهو ذاهب الى باريس ويترقب بشغف أن يتعرف في يوم ما على ماتيس وغيره من رسامي باريس العمالقة، لكنه خلال فترة قصيرة لم يتعرف عليهم فقط بل أصبح واحداً منهم، هو الذي أثبت جدارته وتفرده ورسم أعمالاً مزجت بين الوحشية والتعبيرية والآرت ديكو، وياله من مزيج من ثلاثة اتجاهات عظيمة، خاصة أنه من صنيعة أصابع شخص موهوب مثل فان دونغن الذي ذاعت شهرته بسرعة في باريس واستأجر مرسماً كبيراً في مونتبارناس سنة 1912، وكان يقيم حفلات مخملية باذخة في مرسمه حيث يتجمع عنده رسامون وكتاب ومصممو أزياء وعارضات وموديلات وممثلات ونقاد وأصحاب غاليرهات وجامعو تحف فنية وأغنياء معروفون، وهكذا انعكست هذه الأجواء على قماشاته واصبحت كل حركات نسائه أنيقة وكل التفاتاتهن تشير الى أنوثة آسرة.
ضم المعرض الكثير من البورتريهات التي رسمها لنساء باريسيات ومن ضمنها أيضاً لوحات كبيرة الحجوم لنساء مستلقيات على أرائك تعود الى بداية القرن العشرين حيث مدرسة باريس الفنية في أوج عظمتها وتأثيرها.
أتجول في قاعات المعرض فيسحبني شال ملون لامرأة مسترخية على كرسي ناعم وعلى اليسار لوحة لامرأة تشير لي بقبعتها الملونة المليئة بريش صنعته مخيلة الرسام، وفي الجانب الآخر من القاعة تسترخي أخرى على سجادة شرقية حيث تظهر سيقانها المعجونة بباليت الرسام الغنية وكأنها تريد الإيقاع به مثلما تتقصد غوايتنا الآن. في القاعة الثانية تستقبلك لوحة كبيرة جداً يلتف حولها عدد كبير من زائري المتحف، فيها امرأة بملابس بيضاء وقلادة بخرز كبير لامع، تجلس على أرضية منقوشة بفرشاة عريضة وكأنها سجادة فارسية نادرة، حيث تداعب عنقها بأصابعها وتثني ساقيها الملفوفتين بجوارب داكنة وهي تتطلع الى عيون الرسام الذي استحضره الآن وأنا أتوقف أمامها منتشياً بالجمال. وسط القاعة وضعت لوحته الشهيرة (المغنية) التي تصدح بصوتها وتذكر بأيام باريس الخوالي والابداع الذي هو من صنيعة البشر، ترفع المغنية رأسها قليلاً الى الأعلى وهي تعتمر قبعتها الخضراء وثوبها المتهدل حيث يظهر كتفها العاري الذي يقول مافيه الكفاية حول الجمال الذي يقول كلمته ويمضي الى قلوب الناس.
أكمل جولتي بين نساء فان دونغن وأتوقف برهة عند كل واحدة من ساحراته لأتعلم من جديد كيف أحب النساء وكيف أرسمهن بعناية. وقبل أن أخرج تداعب بصري واحدة من أجمل لوحاته وكأن المرأة المرسومة فيها تدعوني الى البقاء قليلاً داخل صندوق الحكايات هذا، تشير اليَّ بعينيها الغامضتين وقبعتها الواسعة المحاطة بشريط من الدانتيل المزخرف، أبتسم ويكثر أعجابي بالرسام الذي رسمها ثم أحييها بترف وأغادر القاعة.
حين يقول الجمال كلمته ويمضي الى قلوب الناس
[post-views]
نشر في: 10 يوليو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...