رجل خمسيني يطلب من المرأة مرافقته وابنته وهو يشير لسيارته الحديثة.. صمتت وأطبقت برأسها الى الارض واصطحبت ابنتها ومشت .... امام المطاعم العشرات من الناس بعضهم يشتري السفري وآخر جلس للافطار وثالث يبحث عن مكان فارغ ... على مقربة من كل ذلك صاحب بسطية صغيرة رفع غطاء "الفلينة" ونادى : اخواني الصيّام رحمة لوالديكم الصايم يجي يمي ... أعطى كل واحد قنينة لبن صغيرة ... احد الأحفاد الثلاثة هرع نحوه أعطاه ربع الدينار طالبا منه قنينة لبن. ضحك الرجل وأعاد ربع الدينار ومعه خمس قناني لبن. المرأة وابنتها تسيران دون كلام او سؤال لمن يُصادفهما بالطريق ... قبل ذلك كانت محال القصابة مزدحمة جدا الكل يريد شواء الكباب... في الجهة الاخرى من المدينة والبلاد المئات ان لم يكن الآلاف كحال المرأة وابنتها والأحفاد ... منهم من يفترش المخيمات ومنهم من ينتظر زكاة العيد والفطرة ومنهم من ينتظر...

 

نسبة مئوية

وفقا لإحصائيات البنك الدولي في عام 2013، يبلغ عدد سكان العالم العربي زهاء ( 345) مليون نسمة، ويبلغ إجمالي الناتج الملحي للدول العربية مجتمعة تريليونا و490 مليار دولار.إلا أن نصيب الفرد من هذا الناتج لا يزيد عن (3500 ) دولار في السنة. ويعيش في العالم العربي (11 ) مليون شخص على أقل من دولار واحد في اليوم وهو ما تصنفه الأمم المتحدة باعتباره "فقرا مدقعا." 

المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي قال: إن موجة النزوح الأخيرة لعدد من المحافظات والتي كان آخرها نزوح مواطني محافظة الأنبار سيزيد من معدلات الفقر في العراق الى نسبة أكثر مما سجلناها نهاية العام 2014 مضيفا: أن النسب المتوقعة لمعدلات الفقر هي أن ترتفع الى نحو (5 ,30%) خلال الأشهر الثلاثة الماضية، مشيراً الى أن تلك النسب ربما تقل إذا ما استقرت الأوضاع الأمنية في المناطق التي نزح منها المواطنون فضلاً عن تفعيل المشاريع الاستثمارية المتوقفة بسبب الضائقة المالية نتيجة انخفاض أسعار النفط عالمياً.

 

تبريد السيارات والعيد

وسط الشارع وحر الظهيرة ، يقف حمادة يحمل صندوق بيع الآيس كريم قرب الإشارة الضوئية. احدهم فتح نافذة السيارة ونادى عليه، اشترى قطعة لابنه الجالس على المقعد الجانبي. أعطاه الف دينار. حمادة تعمد التأخر في إرجاع الباقي، حتى طالبه الرجل، انفتح الطريق هكذا اعلنت الاشارة الضوئية. حمادة يبلغ من العمر (14 ) عاما يعيل اسرته المكونة من ثلاثة اخوة واخت هو اكبرهم، والده فقد القدرة على العمل بعد اصابته بالعمود الفقري جراء حادث سير. سألته لماذا تأخرت في اعادة بقية الالف دينار. اجاب (الدنية موت حر والحجي فاتح تبريد ردت روحي من كفخني هوى السيارة). 

حمادة بيّن انه سيضطر الى زيادة ساعات العمل لغرض التمكن من شراء ما يمكن من ملابس لإخوته الذين ينظرون الى العيد من تلك النافذة. 

على مقربة من حمادة يقف (ابو كرار) ، بائع اقراص السي دي ، وهو ينتقل من سيارة الى اخرى يعرض هذا القرص وذاك ، ابو كرار معيل لعائلة من ستة اشخاص اكبرهم ولده كرار الذي يعمل في الاشارة الضوئية يبيع الماء البارد. عن هموم العيد يقول: اتفقت مع كرار ان نزيد من ساعات العمل وان نخصص نسبة يومية لشراء الملابس لاخواته فقد استغنى هوعن حقه. 

وزير العمل والشؤون الاجتماعية محمد شياع السوداني اعلن ان الوزارة حريصة على تقليل نسبة البطالة من (17 %) الى (5% ) ضمن ستراتيجية في تنفيذ خطة التنمية المعدة من قبل الحكومة الجديدة والمتضمنة تقليل نسبة البطالة في العراق.

 

ألعاب شعبيّة

بعض العوائل ستخير ابناءها بين ملابس العيد او الخروج الى نزهة محددة تتلاءم مع حالة العائلة الاقتصادية والمعيشية، وربما سيذهب البعض منهم حيث الالعاب الشعبية، التي ستنصب في الساحات القريبة من الاحياء الشعبية، وعلى سبيل الذكر والمكان ستتحول ساحات التشابيه المعروفة وسط النعيرية الى مدينة العاب مصغرة. كريم (ابو سجاد) الذي اخذ يستعد لنصب الالعاب والمتمثلة بدولاب الهوى صغير، مراجيح، ما يسمى بالميزان، يقول: اعتدت في كل عيد نصب هذه العاب التي ترسم الفرح على وجوه اطفال الفقراء وتعوضهم بعض الشيء عن مدن الالعاب الكبرى. وعن الاسعار قال: كل لعبة بحدود 250 او 500 دينار، وهي تلائم هذه الطبقة التي لم ينظر لها احد بإنصاف.

المتحدث الرسمي باسم وزارة حقوق الإنسان كامل أمين اعلن أن نسبة الفقر وصلت إلى (30 %) بسبب عصابات داعش وانخفاض أسعار النفط في البلاد. مبينا: أن وزارة حقوق الإنسان لديها متابعة لمستوى الفقر في البلاد. مشيرا إلى أن آخر مؤشر لمستوى الفقر الذي وضعته وزارة التخطيط ووكالات الأمم المتحدة كان في عام 2009 حين بلغت النسبة ( 23 %) وتعتبر هذه النسبة مرتفعة قياساً بوجود موارد البلاد الكثيرة.

وتابع امين: تم إجراء مسح في عام 2013 وبلغت نسبة الفقر(18 %) لكن ماجرى في العام الماضي من عملية نزوح وتوقف خمس محافظات عن العمل وخسارة الكثير من الأموال بسبب عصابات داعش الإرهابية تشير الإحصاءات إلى وصول نسبة الفقر الى (30 %) وهذا تحدٍ كبير أمام الحكومة بسبب انخفاض أسعار النفط ووجود هذه العصابات الإجرامية التي تدمر اقتصاد البلاد.

 

مجمعات وتخفيضات 

تتوقف (ام مؤمل) برهة هنا واخرى هناك، تبحث عن ملابس بقدر ما تحمله من مال، ادخر جزءا منه ولدها البكر (علي) الذي يعمل قرب احدى الاشارات المروية يبيع الماء، وجزء اخر قدم لها كمساعدة. لكن بعد عدة توقفات لم تجد ما تريده. عاودت البحث في مجمع قريب اعلن عن تخفيضات، لكنها كلما ترفع قطعة تعود تحسب نقودها وكيف تقسمها على ملابس ابنائها الاربعة. حتى تدخل (ابو بسام) صاحب المجمع وساعدها بالامر. تقول ام مؤمل: هي حيرة كل عام وكل عيد وكل موسم مدارس، لقد اختنقت اعيادنا وافراحنا، هل يعقل ان يعجز عراقي عن شراء قطعة ملابس لولده ونحن اهل الخير. رغم وجعها لكنها لم تنس ذكر النازحين وحالهم وهم بعيدون عن ديارهم. عادت ام مؤمل بمتناقضات عدة لكن كل ذلك سيزول حين ترى فرحة اولادها بالملابس، لكن يبقى هم اخر الخروج بنزهة العيد. 

 

تعدد المحن والأقدار

ان تكون فقيرا فهذا قدرك، لكن ان تجمع معه اليتم فهذا القدر الاكثر وجعا، هو ذا حال احمد واخيه اسامة، اللذين فارق والدهما الحياة قبل اكثر من عامين. احمد كبقية الاطفال يحلم بالعيد والملابس الجديدة والنزهة. تقول والدته: في كل عيد انتظر ما يصلني من مساعدة من بعض الخيرين تكون كفيلة بشراء ما يمكن لهما.

اما (ام زينب) التي تحرس ثلاث بنات وولدين يعمل اكبرهما في محل سوبر ماركت، تقول : اعتدت على ادخار ما يمكن من بعض ما يصلني من اهلي، اضافة الى الاحتفاظ ببعض الملابس التي تقدم لنا. في نهاية الزقاق تقدمت (ام جعفر) وهي تحمل كيسا كبيرا، طرقت الباب اكثر من مرة، خرجت شابة، تبادلت معها السلام، سلمتها الكيس وعادت الى سيارة ابنها. تقول ام جعفر: هي بعض الملابس والاغرض التي استطعت جمعها من اهلنا وجيراننا. مبينة ان هذا البيت يضم خمس عوائل مهجرة. (ام محمد) والدة الشابة التي فتحت الباب قالت: رغم كل اوجاعنا وما نعانيه لكن مساعدة الناس والسؤال عنا تزيل البعض من هم القلوب. موضحة ان اكثر من جار قدم لهم المساعدة سابقا وحاليا وهم على مقربة من العيد. مبينة ان ثلاثة من بناتها وعيالهن يقيمون معها في البيت اضافة الى احد ابنائها، واخيه وزوجته.

 

 

 

 

فارزة

 

التفاقم المتصاعد بأزمتي الفقر والبطالة منذ 2003 وإلى يومنا هذا هو نتيجة أسباب قد يقف في مقدمتها ضعف القدرة الإنتاجية المحلية وتوقف المعامل والمصانع في القطاع العام والخاص والمختلط، والاستعاضة عن منتجاتها باستيراد مثيلاتها من الخارج ، الأمر الذي أدى الى خنق الصناعات المحلية الذي جر وراءه البطالة وارتفاع نسبة الفقر .. إن ترسيخ هذا النهج أدّى إلى تخريب الأرض الزراعية بعد أن واجهت الأهمال وقلة الاهتمام بالمشاريع الاروائية . وفي مجال الصناعة أدى الى اختفاء العديد من الصناعات الحرفية التي تعتمد المهارات المحلية والتي كانت تزوّد السوق العراقية بالكثير من احتاجاتها .. وقد جاءت الأحداث الأخيرة التي بدأتها داعش في العاشر من حزيران العام الماضي لتؤدي الى زيادة نزوح العوائل من مناطق الأحداث لتزيد الطين بِلّة. إن اهمال الدولة للجانب الاقتصادي في البلاد أدى الى تفاقم مشكلة البطالة وبالتالي زيادة نسبة الفقر وقد ترافق كل هذا بأزمة الفساد التي لا مثيل لها في كل بلدان العالم وقد انعكس كل هذا على المستوى العام للخدمات والصحة والتعليم وبات العراق من بين البلدان الأكثر تخلفا في هذه المجالات. معظم الشباب وخريجي الكليات والمعاهد يوجهون انظارهم الى الدولة ومؤسساتها على اعتبار انها الكافل والمشغل الوحيد لهم، لكن جهاز دولة كالجهاز العراقي. لا يمكنه ان يستوعب كل الافراد الراغبين بالعمل وبالتالى يفترض ان يتوجه هؤلاء الى القطاع الخاص. والذي يشكو هو الاخر من البطالة وتوقف اغلب مشاريعه، فتحول الى مجرد قطاع خدمي غير منتج وغير قادر على تلبية الاحتياجات المحلية وبالتالى حصل انخفاض بنسب التشغيل للايدي العاملة الامر الذي ادى الى خلق بطالة كبيرة وزيادة في نسب الفقر.يرتبط الفقر بعدة ظواهر اجتماعية من بينها العمالة الهامشية وغير المنتظمة، وهذا ما تعكسه آلاف البسطيات. وعلى صعيد الإسكان، يخلق الفقر تجمعات سكانية عشوائية وهذا ما نشاهده ايضا من خلال العشوائيات التي بلغ عددها قرابة (1552) عشوائية في عموم البلد، يسكنها مليونان و400 الف نسمة حسب احصاء وزارة التخطيط. أما على مستوى التعليم، فتبرز ظاهرة عمالة الأطفال وخروجهم من المدارس في سن مبكرة، إذ يقل معدل الالتحاق بالتعليم في مراحله المختلفة. اضافة الى انخراطهم في عمليات الجريمة او العصابات الارهابية. من الواضح إن البلاد تواجه فيتو أمريكيا وغربيا على إمكانية مشاركة الدولة في النشاط الاقتصادي وهذه الدول تتطلع الى ان يكون هذا النشاط مقتصرا على القطاع الخاص فقط وهي تتطلع الى المشاركة الفعالة في امتلاك النشاط في المجالات الخطيرة مثل الطاقة الكهربائية وربما استخراج وتصدير النفط والزراعة بعد إقامة مشاريع كبيرة على الأراضي التي تمتلكها الدولة .. وكل هذا سيرتبط دون شك بالاستقرار الأمني في البلاد وهذا الاستقرار لن يتحقق ابدا ما لم تقدم الدولة التنازل تلو التنازل ومنح الامتيازات الخطيرة والتي تهدد استقلال البلاد .
وحتى ذلك الحين سنرى على الدوام أولئك الصبية والنساء يتواجدون بكثرة حيث الإشارة الضوئية وتقاطع الشوارع المزدحمة يبيعون الماء والعلكة وغيرها من توافه الأمور فيما تتعرض حياتهم وبناؤهم الشخصي لأكبر المخاطر.