TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > اسمنت امريكي في مفاعل ايراني

اسمنت امريكي في مفاعل ايراني

نشر في: 15 يوليو, 2015: 09:01 م

قد لا نتمكن من فهم التعقيد الفني في اتفاق من ١٠٠ صفحة بين ايران والغرب، الا ان "صب الاسمنت في مفاعل مدينة اراك ليتوقف تشغيله"، يصلح ان يكون واحدا من رموز الفهم، حيث ورد في ترجمة رويترز للنسخة الروسية من الاتفاق النووي، وهي فقرة قد يخفيها الرئيس روحاني لبعض الوقت بتضامن الاعلام المحلي، كي يهدئ من روع خصومه الداخليين. ومع ذلك فان ايران تربح بصيغة متعقلة من الربح بدلا من الصيغة النووية، فيما يتصل بعلاقاتها مع الدنيا.
ولم يكن باراك اوباما متخاذلا مع ايران، لكنه كان يمثل اللحظة الاميركية التي تعتقد بان من المفيد تجربة شيء جديد مع الشرق الاوسط. وفي عهده تعرض الايرانيون لاسوأ واشد العقوبات، التي كانت مخففة في زمن جورج دبليو بوش، ثم تحولت الى منع لتصدير النفط، جعل طهران تعلم انها باتت تواجه اقسى لحظة. وهكذا انهار التومان الايراني وبدأ رجال الاعمال بالانتحار فوق سطوح بناياتهم الشاهقة التي شيدوها بقروض بالدولار، لكنهم تسلموا ثمنها بالتومان، ثم تبخر كل شيء. اما النفط الايراني فصار يستبدل بعمليات مقايضة مع الرز الباكستاني في موانئ مهجورة على سواحل سومطرة. حتى معمل سايبا للسيارات كاد ان يفلس، لولا ان صبية بغداد "شعروا بالضجر" من العربات المحطمة في الشورجة، فاستبدلوها بعربة صفراء رخيصة، وانقذوا المصنع الايراني بشهامة قل نظيرها، ولابد ان تسجل في تاريخ الاتفاق النووي!
ولقد تفاقمت مرحلة الالم الاقتصادي بسرعة، وصار الشعب الايراني كما نلاحظ على فيسبوك وتويتر، يردد كلمة واحدة: لماذا لا نتعلم مما جرى في العراق، ولماذا لا ناخذ العبرة من عناد صدام حسين مع مفتشي الاسلحة، وكيف ادى الى تدمير بلد كبير! حتى ان سي ان ان نقلت عن فنانة ايرانية معروفة اثناء مغادرتها الى دبي، قولها: لا اريد مصيرا عراقيا لاطفالي!
هذا باختصار ما فعله اوباما، وهو يختصر الرسالة التي فهمها الايرانيون واستجابوا لها، ومنذ لحظة فوز الاصلاحيين بالرئاسة قبل عامين، كان واضحا ان بلاد فارس رضخت للمجتمع الدولي، لكنها تتفاوض على ضمانات، لانها تشكك بنوايا الغرب! حقا من سيضمن ان الغرب سيحترم طهران اذا توقف النشاط النووي؟ هذا كان سؤال الايرانيين الجوهري. ولا شك انهم تلقوا اجابة وافية ومضمونة. وقد كان ثمنا مضمونا الى درجة ان ايران وافقت على ان "يصب الأسمنت في الجزء الأساسي من مفاعل آراك ليتوقف تشغيله". وهذا ما بدا خطا احمر حتى قبل سنة، والطريقة تسحرني، فبدلا من تحطيم المفاعل، يجري تجميده بالاسمنت المنساب بهدوء، داخل اخاديد تقنية معقدة.
وقد لا نتمكن من فهم التعقيد الفني النووي في اتفاق من ١٠٠ صفحة بين ايران والغرب، الا ان صب الاسمنت في مفاعل اراك ليتوقف تشغيله، يصلح ان يكون واحدا من رموز الفهم.
سيتم تعطيل ثلثي النشاط النووي. بينما سيتم الاعتراف بثلثي النشاط السياسي الاقليمي وكل النشاط التجاري مع العالم. هذه هي الصفقة.
اما براعة الايرانيين فتتجلى في كيفية تبريرهم وتقليلهم من شأن حكاية تجميد التخصيب وصب الاسمنت في المفاعلات. فهم يقولون ببساطة: ايران لا تحتاج في طموحاتها سوى الى ما يعادل خبزتين في اليوم. لكنها كانت تخبز ستة ارغفة. الان اخذوا منا اربعة، فبقيت لدينا خبزتان كافيتان! انه دهاء في التبرير يذكرك بالشعر الفارسي القديم والاحاجي الصينية الخبيثة. ويمكن لهذه الحيلة ان تخفف استغراب الجمهور الايراني والجمهور المحب لايران. لكن الجميع يعلمون ان الملف العراقي ودروسه وحرائقه وويلاته، كان مدخلا لكل هذا.
ان كل الدنيا ستتعلم من العراق الذي اصبح "عبرة لمن اعتبر" الا العراقيين، الذين يدور معظمهم في حلقة مفرغة منذ ثورة العشرين

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. الشمري فاروق

    والله لقد قلت الصدق كله العراقي لايعرف ماذا يريد لو وجدت اربعة عراقيون يناقشو ن ويتحدثون في اي موضوع سوف لم ولن تجد بينهم قاسما مشتركا يجمع بينهم كل يغرد في جانب

  2. د عادل على

    انشاء الله وبعون الله ستستطيع أمريكا نزع أسلحة إسرائيل النوويه----------وان لم تقدر أمريكا نزع إسرائيل من ترسانتها النوويه فهدا يعنى ان الميزان زوجى---------إسرائيل تستطيع في اى وقت تدمير العراق وايران وسوريا ولبنان ممكن في ثوانى--والمسلمون لا يستطيعون ا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناديل: يكتب كي لا يموت العالَم

 لطفية الدليمي في حياة كلّ كاتب صامت، لا يجيدُ أفانين الضجيج الصاخب، ثمّة تلك اللحظة المتفجّرة والمصطخبة بالأفكار التي يسعى لتدوينها. الكتابة مقاومة للعدم، وهي نوع من العصيان الهادئ على قسوة العالم، وعلى...
لطفية الدليمي

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram