TOP

جريدة المدى > عام > المعمار مكيّة.. قرن عاشه بين قرنين

المعمار مكيّة.. قرن عاشه بين قرنين

نشر في: 22 يوليو, 2015: 12:01 ص

ما كنت أنتظر اللحظة التي أذكر فيها المعمار وأحد أبرز رواد الهندسة العمارية العراقية ذاكراً ما دأبتُ عليه عند ذكر الأعلام المتقدمين والمتأخرين (ت 2015)، فهناك أشخاص تظن أنهم خالدون، على الحقيقة لا المجاز، مع أن تجربة الحياة وما بعدها يقين في يقين. إنه

ما كنت أنتظر اللحظة التي أذكر فيها المعمار وأحد أبرز رواد الهندسة العمارية العراقية ذاكراً ما دأبتُ عليه عند ذكر الأعلام المتقدمين والمتأخرين (ت 2015)، فهناك أشخاص تظن أنهم خالدون، على الحقيقة لا المجاز، مع أن تجربة الحياة وما بعدها يقين في يقين. إنه التوهم الذي عبر عنه، خالد آخر ظننته سيبقى في الأزل، إنه محمد مهدي الجواهري (ت1997): "ووهمتُ أني في الصَّبابةِ منهم/ وقد يُعين على اليقين توهم"(مِن قصيدة قلبي لكردستان).
هكذا أخذني الوهم إلى حد اليقين به، ولي أسبابي في هذا التوهم، غير المقبول مِن الكثيرين، أن محمد مكية، الذي بدأت رحلتي معه قبل أكثر مِن عشرين عام، بلا انقطاع، حتى قبل يوم مِن رحيله، كان يصرخ العراق في داخله، وكأن معاول الهدم التي تضرب فيه لا يريد مكية تصديقها، وهو توهم آخر. كان ينظر إلى بعد خمسين عاماً، أهم شيء عنده أن يسجل أفكاره ويسلمها لمنفذين "جريئين في ما يدعون كفاة"، لا مدعين كذابين. لا يريد مكية تصديق ما يحدث، بل يعتبرها سحائب سوداً ستأخذها الرياح بعيداً، وينجلي الأفق أمامه كي يبدأ بتنظيم ساحل دجلة مِن جديد. ولما أقول له: قد لا يبقى دجلة نفسه! مع ذلك لا يريد تشاؤماً أكثر.
بعد التسعين أخذ يشكو التعب، ومع أن السبب معروف، إلا أنه يتوهم أنه طارئ، لا تعب العمر، فأذكره ببيت أبي نواس (ت 198هـ): "قالوا كبرت قلت ما كبرت يدي/ في أن تدف إلى فمي بالكأسِ"، يضحك ويفرض مصاحبة العصا، حتى اضطر إليها. سمى لي محمد مكية الطائفية بكلمة نافذة في أعماقه، وحسب تعبيره "لغوات" (مِن اللغو)، ولا يعجبه معرفة تفاصيل أكثر، فهو الذي تعود منذ صباه أن يأتمر بأمر والدته: يذهب إلى جيرانهم اليهود كي يشعل لهم الفانوس يوم السبت، لأن مِن العادة لا يعملون شيئاً في ذلك اليوم. فأي طائفية ستكون عند محمد مكية؟ كنت أضحك وهو يسألني عن المعمار رفعت الجادرجي، قد يفرقكما المذهب!
وصل محمد مكية إلى لندن العام 1935 ببعثة دراسية، سبقه إليها عبد الكريم الأزري، ورئيس الوزراء الأسبق عبد الرَّحمن البزاز (ت 1973) ووزير الزراعة الأسبق عبد الغني الدَّلي (2011)، وآخرون يربو عددهم على الخمسين، وما أن أنهوا دراستهم شدوا رحالهم وعادوا إلى العِراق، وبهم ومِن القادمين مِن بعثات ألمانيا وفرنسا وأميركا نهضت البلاد نهضتها الكبرى. وبعد دراسة العمارة في ليفربول وكامبردج عاد (1946) إلى العِراق، وتسلم هناك مهام في البلديات، ثم أسس وترأس قسم الهندسة المعمارية في جامعة بغداد منذ 1959.
عندما يتحدث محمد مكية عن الماضي العراقي الغابر يحول لك تلك الأراضي الجرداء، حيث بقايا خرائب سومر وبابل وآشور، إلى حواضر تعج بالحياة والحركة، وكأن لم يغادرها ملوكها، مِن نرام سين وحامورابي إلى آشور بانيبال، أو أن طريق الحرير مازال حيًّا مِن الصِّين إلى العِراق. يحدثك عن ساحل دجلة، بما لا علاقة له بحاضره، على أن الحاضر ظرف طارئ ويزول، وعليه تسجيل ما يُقرأ بعد خمسين أو مئة عام، المهم أن الخواطر تسجل في ذاكرة الورق قبل زوال أصحابها.
يصعب عليك متابعة حديثه، فهو معماري منظم فكره على الخطوط والزوايا لا على عبارات الكلام، يعتقد في داخله أن حديثه واضح. أتذكر لامني الصَّديق الباحث محمد حسين الأعرجي (ت 2010)، كوني قريبًا من مكيَّة ولم أكتب خواطره، وهذه الأفكار الغزيرة والعميقة لديه، وكنَّا نسمعه معًا! وكنت سجلت معه أحاديث طويلة، على أمل أن تصدر كمذكرات، لكن مكيَّة عندما يرى كلامه قد تحول إلى كلمات مكتوبة ويقارنها بما يفكر في داخله يرفضها؛ لعدم المطابقة، فتركنا الموضوع لسنوات، حتى تدخل نجله كنعان وأصدرناها على مضض تحت عنوان “خواطر السنين” عن دار “السَّاقي” (2005)، وقد أشرت في المقدمة إلى صعوبة أخذ الحديث منه.
حينها قلت للأعرجي -وكان قادمًا مِن بولندا- لو تجلس أنت معه وتتولى المهمة، وبالفعل جلس معه، لكنه لم يتمكن مِن إنزال الكلام والتعبير عما في داخل المتكلم، فسلمني التسجيل معتذرًا؛ لكثرة الإيماءات في كلامه، واللازمة التي لا تفارق لسانه “والترتيب”، وعليك أن تفهم ماذا يقصد عندما يقولها. فمحمد مكية ظاهرة معمارية، يعبّر بأفكاره بالخطوط والحجر والطين، وهو مِن المعماريين الذين يعملون بأيديهم لا بفريقهم عند بداية التصميم، وهنا يأتي الإبداع بين الجهد باليد لا بالمكتب.
شأنهم في ذلك شأن الباحثين، الذين يعملون بأيديهم كلَّ شيء، لا يعتمدون على موظفي المكاتب أو التَّلاميذ، فالمساعد يأتيك برواية أو خبر، لكن لا يلاحظ ما في صفحات الكتاب مِن أشياء أخرى. أجد هذا الفرق أيضًا بين استخدام الكتاب الإلكتروني بالبحث، فهو يجد لك المعلومة المطلوبة بسرعة وبلا عناء، لكن لا يسمح لك باقتناص غيرها، وهنا يتحدد اجتهادك ويتقلص علمك، ليس كالكتاب الورقي الذي تصطاد خلال البحث فيه ما ليس على البال والخاطر.
تعلق محمد مكية بمشروع جامعة الكوفة (197-1968)، وحصلت الموافقة مِن رئيس الوزراء طاهر يحيى (ت 1986)، وكان معه أكاديميون وعلماء كلٌّ في اختصاصه، وبينهم العلامة علي الوردي (ت 1995)، على أن تكون شبيهة بالجامعات الدُّولية الكبرى، فالكوفة دار حضارة قديمة، وتقع على الفرات أو ملتقى الطرق، حسب تعبير مكية نفسه، لكن انقلاب 17 تموز 1968 قضى على مشروع الجامعة الأهلية الأولى مِن طرازها، مِن حيث الاتساع في المهام، وما أقيم بهذا الاسم، في ما بعد، ليس له صلة لا مِن بعيد ولا مِن قريب بذلك المشروع.
ولأن الفكرة ظلت تراود مكيَّة، استقر بلندن وأنشأ ما سماه بديوان الكوفة (1986-2006)، كان ملتقىً للثقافات والمثقفين. عشرون عامًا كم استضافت صالته مِن ندوات ومحاضرات ومعارض تشكيلية، والبداية كانت كمكتب هندسي، آخر الجوائز (1994) التي فازت بها تصاميم محمد مكية تصميم بيت العدل بالرِّياض، أو مجمع المحاكم، بعد منافسة مع مكاتب دولية، وهو ما زال يسأل هل السُّوق الشَّعبي ظل يُجاور البناء، وكان له قصد فيه، وهي فكرة عميقة الدَّلالة، فالعدل يهم النَّاس فيكون البناء نابعًا بينهم متواضعًا لهم. أما تصميمه الأشهر ببغداد فهو جامع الخلفاء (افتُتح 1963)، الذي شُيِّد على بناء الجامع العباسي القديم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram