كلما شعر الشعب بالملل والحزن، تحدث عن رواتب الرئاسات وتقاعد النواب. واللطيف ان بعض وزراء الحكومة وبعض النواب "فهموا اللعبة" فكلما شعروا بعدم وجود شيء يفعلونه، راحوا يتحدثون عن المطالبة بخفض الرواتب والمخصصات والتقاعد، لكبار المسؤولين. وهكذا ننشغل بخوض جدل لا تتجاوز قيمته كما نقرأ ونسمع، مائة مليون دولار في السنة هي قيمة التخفيضات المقترحة لرواتب الكبار، وهذا مبلغ زهيد عراقيا، لاننا مثلا نجني كل يوم وبالسعر الحالي، مائة وخمسين مليون دولار من بيع النفط، وربما اكثر بقليل. والمال الذي "يخطئ طريقه" نحو خطط الانفاق الصحيحة، اكبر بالاف المرات من المبالغ التي نتصارخ ونتشاتم بسببها
ولا نريد تثبيط عزيمة المتحمسين لفرض قيود مالية على الساسة، لكن لعبة المال في العراق صارت مقرفة بشكل جنوني، واتذكر اننا جميعا كنا مهتمين بشيء اسمه ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ولجنة النزاهة النيابية، وبقينا نتابع عملها لسنوات، لكننا وصلنا فجأة الى لحظة صمت رهيب، ونامت كل الملفات والقضايا، ولم يعد لدى اهل الرقابة ما يقولونه سوى انهم يناشدون الفاسدين، ان يتوبوا في رمضان، كما رأينا وسمعنا مؤخرا
اما ظهور داعش فكان "احسن خبر" نزل على قلوب الفاسدين الكبار، اذ انشغل الجميع بالخليفة وصولاته، وجهود الشعب لتطويق خطر الذباحين، ونسينا متابعة اي شيء اخر ذي اهمية، سوى الحرب واخبارها. رغم ان ظهور داعش واستفحالها هو احد نتائج فساد العقول والجيوب والقلوب
اما اخطر ما سمعت في هذا الباب، فهو ان الفساد العراقي يشهد تطورا متواصلا، اذ لم يعد مجرد فساد، بل اصبح سباقا بين الفاسدين. حتى انك تقول لهذا: كفاك يا اخي، لقد "ابليت بلاءا حسنا"! فيجيبك: لو توقفت فان فلانا سيتفوق علي، وسيتمكن من تدميري سياسيا واقتصاديا. ان الفساد جزء من "التوازن السياسي" في البلاد، حسب اصحاب هذا الرأي!
و"التوازن" هذا اذ يشتغل في ملف الفساد، فهو يشتغل بنحو اخطر في ملف القتل والحرب والذبح. اذ ان كثيرا من الاطراف في العراق والشرق الاوسط، تهمس في اذنك بأنها لا تستطيع التوقف عن القتل، لان الطرف الاخر سيتفوق عليها بالذبح والموت، ولابد من حصول "توازن دماء".
ان كل مجتمع لا يستطيع التوقف عن السرقة والقتل، هو تجمع بشري خارج التاريخ. لان كل الجهد العقلي عبر التاريخ، كان محاولة لتنظيم القتل وصراع المال. وهذا هو المعنى الدقيق للحضارة. وحين تجد مجتمعا يعرف بدقة كيف يتولى تنظيم "توازن الدم والمال" فانها شهادة اصيلة بمستوى تحضره. وهذه هي السياسة بعينها.
ولقد مرت فرص كثيرة على العراقيين كي ينتقلوا الى مرحلة معقولة من التفكير المعمق حول المشاكل، للعثور على توازن متحضر (لا بربري) في المال والدم. لكن بعد مرور نحو سنة على تشكيل الحكومة، لايبدو ان الوقت مناسب لانجاح التقدم السياسي. ولاحظوا كيف تتراجع الاحلام. فقبل سنة كنا نريد من التحالف الوطني ان ينجح في ادارة حوار شامل مع الكردستاني واتحاد القوى. اما اليوم فان طموحاتنا تراجعت بنحو فادح، وقصارى ما احلم به هو ان تنجح الاحزاب الشيعية في خوض حوار داخلي فيما بينها، لتهدئة الاحتقانات "الناعمة" في النجف، او "الخشنة نسبيا" في البصرة. اذ كما يقول التعبير الدارج "اللي فينا كافينا". وكل المشكلة ان الكثير من النافذين والاقوياء والشقاوات في العراق، لا يؤمنون بفحوى هذا التعبير، وهم يصرون على ان "اللي فينا مو كافينا". اذ ان شراهتهم للمال والدم، لن تنقطع بسهولة، لانهم ببساطة لا يكادون يتقنون شيئا اخر، سوى القتل واكتناز المال!
كيف نتوقف عن القتل؟
[post-views]
نشر في: 22 يوليو, 2015: 09:01 م