عندما رحل محمد مكية الى مثواه الاخير قبل ايام (توفي يوم 19 تموز 2015 في احد مستشفيات لندن بالمملكة المتحدة)، لم يكن ذلك الرحيل غياباً له ولعمارته، ذلك لان ما اجترحه المعمار الرائد من انجازات تصميمية عالية المهنية، كرست اسمه في الخطاب المعماري ا
عندما رحل محمد مكية الى مثواه الاخير قبل ايام (توفي يوم 19 تموز 2015 في احد مستشفيات لندن بالمملكة المتحدة)، لم يكن ذلك الرحيل غياباً له ولعمارته، ذلك لان ما اجترحه المعمار الرائد من انجازات تصميمية عالية المهنية، كرست اسمه في الخطاب المعماري الاقليمي، مثلما ترسخت عمارته المميزة بالمشهد اياه. والحال، ان ما قدمه مكيه من أعمال عمرانية ومعمارية، فضلا عن مساهمته الجادة في نشر وتوسيع مديات الثقافة العراقية (لنتذكر <ديوان الكوفة>، من بين أنشطة آخرى)، تجعل منه احد ابناء هذا الوطن المخلصين والمجتهدين.
فإرثه المعماري وما قدمه للعمارة، وللعمارة العراقية تحديداً (لنتذكر، مرة اخرى، من ان مكيه كان احد مؤسسي اول قسم للعمارة في العراق، واول عميد له)، هو ارث رصين يحمل في ذاته اهميته المهنية العالية، ويجعل منها موضوعا للاقتداء والمحاكاة، لما ما يتضمنه ذلك المنجز الحصيف من ابداع، وفنية، وخلق! اذ لايخفي، بان الفكرة، اية فكرة، لا تصح في ذاتها، وإنما في قدرتها على التوليد والتواصل والتفاعل, وعمارة مكيه، رغم ان كثيراً من انجازاته التصميمية لم يكتب لها التنفيذ، فانها تبقى موضوعا للتعلم والاقتباس والاستعارة.
في بعض الاحيان، يمكن معرفة مبررات عدم تنفيذ بعض المشاريع المهمة التى اعدها مكية، وارجاعها لاسباب شتى. لكني، شخصياً، لا اجد اي تسويغ او عذر لازالة احد روائع العمارة العراقية الحديثة المصممة من قبل مكية، وهو مبنى مصرف الرافدين " في كربلاء (1968)، والذي حدث سنة 1991، السنة المتخمة بالاحداث الدراماتيكية، والغاصة بالآمال ..التى اجهضت سريعاً (مثلما ازيل، ايضا، مبنى اخر لمكية في الكوفة بذات السنة العصيبة)، فهذا المبنى ذو المقاسات المتواضعة، كان، في الحقيقة، من الاحداث المعمارية عالية القيمة في مدينة كربلاء، لما تضمنته عمارته التى كتبت عنها، يوما ما، باحتفاء يليق بحدثها التصميمي، ما يلي: ".. ما يثير في عمارة مبنى مصرف كربلاء واجهته الرئيسية، وهي بالمناسبة واجهة المبنى الوحيدة ايضاً، ذلك لان المبنى محاط من جوانبه الثلاثة بابنية لصيقة به. يدرك المعمار جيدا، ان فعالية تنطيق مفردات تلك الواجهة، هي الفرصة الوحيدة المتاحة له لتبيان خصوصية عمارة مبناه، وتلبية رغبته في إثراء نسيج البيئة المبنية المحلية، هو الذي يعرف جيداً خصوصيتها، ومُطلع على فقرها العمراني، والتائق لجعل مبناه ليكون "ايقونة" بصرية مميزة، لذلك النسيج. لكنه ايضا، يعي الى حدٍ بعيد، بان شواهد المكان الآخرى اللافتة سواء كانت الثقافية منها، ام العمرانية ام المعمارية (وخصوصا المعمارية!)، لا يمكن تجاهلها، او التغاضي عن حضورها البليغ في المشهد. (لنتذكر عمارة المقامات الدينية في المدينة، وكذلك قصر الاخيضر (778م): المأثرة المعمارية الاسلامية الواقع في اطرافها). كل ذلك كان حاضراً، كما نتوقع، عند اشتغال المصمم على عمارة مبناه الكربلائي.
ايقن المعمار، إن في اختزال أدواته التكوينية حد التقشف، التى سيتعامل معها في صياغة قرارته التصميمية الخاصة بمبناه، يمكن لها ان تكون ملائمة جداً هنا، وان يكون ذلك الاختزال، بمثابة تعويض عن صغر ابعاد المبنى، وبديلا عن ضخامته. كان لابد، اذاً، ان يلجأ المعمار نحو مفردة تكوينية بعينها، سيسعى الى إظهارها، بصورة جلية، بحيث يمكن لها ان تجيب على جميع تساؤلاته التصميمية. وليس هنا، افضل (واصدق!) من الاتكاء على مفردة "المقياس"Scale ، كي يمكن بلوغ تلك المرامي والاهداف بصورة ميسرة ومقنعة في آن. ويشي اسلوب معالجات الواجهة العتيدة (الوحيدة والرئيسية)، بصدقية توقعاتنا في اصطفاء "المقياس" وطريقة تنطيق ذلك المقياس لتلك المهمة التكوينية.
يتطلع معمار مصرف كربلاء الى ايجاد نوع من "القطيعة" الاسلوبية، التى يمكن بها ان يرتقي بمبناه ليكون حدثاً مميزاً ولافتاً في سياق البيئة المبنية الملاصقة، وفي سياق ما يجاورها من المباني والمنشآت. من هنا، يمكن فهم قرار تحديد المبنى باطار خاص ومميز، (بالواقع، هو تحديد لتخوم الواجهه)، كي يمكن ابراز المبنى بصيغة مختلفة عن مألوف عمارة المباني المتاخمة. ومما عزز ذلك االإختلاف وكرس تمايزه، اختيار المعمار مادة الرخام الثمينة، كمادة لذلك الاطار المحدد، بغية تأكيد "غيريته" مرة آخرى، عن عمومية استخدامات المواد الانشائية الشائعة والمألوفة للمباني المحيطة. نحن، اذاً، ازاء تمرين تصميمي ممتع، يطمح المعمار به، إن يكون مبناه لافتا ومثيرا للانتباه، لهندسيتة المنتظمة الرصينة، وللتحديدات الاطارية الواضحة والجلية، المشغولة بتلك المادة الغالية والجليلة، ولقرار المصمم في انحسار كتلة المبنى نحو الداخل، ورفعه عن مستوى الارض بمصطبة، تعزل المبنى، وتنأي به عن ازدحام الشارع ورصيفه، العاج بحركة السيارات والسابلة."
لقد رحل معمار المبنى الى مثواه الاخير، لكن الشعوب الحّية، لا تنسى بناتها وابناءها البررة، الذين ساهموا في تقدم البلد ورفعوا رايته عاليا بافعالهم واعمالهم الجليلة والمقدرة. سيكون امرا رائعا لو ان الادارة المحلية في مدينة كربلاء، ومن خلال محافظها ومجلسها البلدي، اتخذوا قرارا باعادة بناء مبنى "مصرف الرافدين" المصمم من قبل مكية، والمزال بصورة جائرة، كإيماءة احترام له، وللعمارة وللمدينة التى احبها، وسعى لان يكون مبناه احد الاحداث المهمة في المشهد الحضري فيها. سيكون ذلك، في حالة تحقيقة التفاتة كريمة من اصحاب القرار.
نتطلع بان دعوتنا هذه للتذكير باسم محمد مكية، وعمارته المعبرة، ستلقى استجابة إيجابية، تعزز أمالنا من ان "غياب" المبدعين، لهو بمنزلة "حضور" آخر، يمكن له ان يكون كذلك، من خلال تكريس اسمائهم في الذاكرة... وفي المشهد!