كنت قد شاهدت أعمالاً كثيرة للفنان التعبيري جورج غروز (1893- 1959) سواء في برلين أو براغ أو أمستردام وغيرها من المدن، تذكرت الكثير منها وأنا في طريقي لمشاهدة أكبر مجموعة لأعماله تعرض في مكان واحد، حيث أقام متحف دي فونديشن وسط هولندا معرضاً مهماً لهذا الفنان بعنوان (شمبانيا سوداء ورؤيا جادة) يضم 250 عملاً شملت تخطيطاته ورسومه للكتب والصحافة والحفر أيضاً. وقد استعار المتحف أغلب الأعمال من أكاديمية برلين للفنون، وتم اختيارها بدقة كبيرة وبعد دراسات عديدة كي تمثل كل خطوات حياته الفنية وتطور أعماله وتأثيرها والإشارات التي تبثها ضد الحرب وجشع الإنسان المتسلط، أرى هنا وأنا اشاهد المعرض تصاعد موهبته وتنقلات مسيرته الإبداعية، أشم رائحة أحباره التي جعلت أيام حياته مرتبطة مع بعضها مثل قلادة واحدة ابتداءً من فترة صباه وشبابه الى آخر أيامه، أشعر بذلك كله وأنا أسير معه في المتحف خطوة بعد خطوة وخطا بعد خط ورسما إثر آخر.
في بداية شبابه أثارت رسوماته السلطات حيث كان يعبر فيها عن الأوضاع المزرية في فترة مابين الحربين العالميتين، كان يعرض بإصرار رسوماته التي يظهر فيها أشخاص مقطوعي الأرجل، متسولون، صعاليك، عميان، مدمنون، باحثون عن ملاذ، أصحاب عاهات، متسكعون في زوايا الشوارع، باعة متجولون وكلاب سائبة. بهذه المواضيع ملأ أغلب لوحاته بالفوضى التي تجتاح البلاد، لكنه لم ينس سبب هذه الفوضى وقد أشار في رسومات أخرى الى سبب هذا البلاء ورسمه على شكل جنرالات وقادة وأثرياء بملابس ثمينة، رجال ممتلئين يشربون ويدخنون بشراهة وأشخاص متنفذين بصحبة مومسات. رسم كل ذلك بعينه الخبيرة هو الذي شارك كجندي في الحرب العالمية الأولى وقد أصيب وظهرت عليه بعدها أعراض نفسية ساعدت بتسريحه من الجيش.
بدأ غروز في شبابه بنشر أعماله في مجلة (الشباب الجديد) وكانت أغلبها ضد عسكرة البلد، لكن سرعان ما أغلقت المجلة بعد أن منعتها السلطة. بعد ذلك بدأ أسلوبه يتغير وينضج وتصبح خطوطه حادة مثل السوط ودفع جرأته الى أقصاها وهو يعرض عملاً يمثل المسيح مصلوباً وقد ألبسه جزمة عسكرية ووضع على وجهه قناعاً مضاداً للغازات (من الذي يستعمل في الحروب) أو عمله الآخر الذي عرض فيه دمية كبيرة ألبسها بدلة عسكرية واقتطع الرأس ووضع مكانه رأس خنزير. وهكذا مع الوقت أخذت اعماله تتعرض الى النقد والهجوم من السلطة وخاصة مع صعود النازية، ولم يجد صعوبة في الاستمرار بالرسم فقط، بل كاد أن يُعدم لكنه نجا من ذلك بمساعدة بعض الاشخاص المتنفذين.
يعتبر جورج غروز بجانب أوتو ديكس وماكس بيكمان أهم التعبيريين الذين فضحوا في رسوماتهم الأوضاع في ألمانيا والتقلبات الاجتماعية التي أصابت البلد في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. ورغم أنه كان مرآة لعصره لكن هذا لا يمنع من تأثرّه برسامين يعودون الى أوقات بعيدة مضت مثل الهولنديان يرون بوش وبيتر برويغل (وخاصة لوحته انتصار الموت) وكذلك الرسام الاسباني غويا وأعماله الطباعية التي سماها (كوارث الحرب) لكن الفرق بينه وبين غويا هو أن الثاني لم تنشر أعماله إلا بعد وفاته بسنوات طويلة في حين أن غروز قد عرض أعماله وأحبارها تكاد لم تجف بعد وهنا تجرّع خصومه من السياسيين رسوماته كما يتجرعون السم.
في سنة 1932 عرضت عليه وظيفة مدرس في نيويورك، فوافق بسرعة بسبب الضغوطات التي كان يتعرض لها في ألمانيا وقد تزامن ذلك أيضاً مع استيلاء هتلر على السلطة. أخيراً حصل على حريته في أمريكا لكن أعماله لم تلاقِ الحماس الذي يليق بها لأن العالم كان مشغولاً وقتها بسريالية دالي الذي صعد نجمه هو وباقي السرياليين. ورغم كل الظروف بقي غروس مخلصاً لسخريته وأعماله التعبيرية التي تقترب من الكوميديا السوداء.
في سنة 1959 في ميلاده السادس والستين تمت دعوته الى برلين للاحتفاء به وبمنجزه كفنان عظيم وقف ضد النازية، وليكون بين أهله وناسه الذين تركهم مرغماً، لكنه لم يستطع أن يتمتع بهذه اللحظة التي انتظرها كل حياته، فقبيل الاحتفال زلّت قدمه وهو على السلَّم فسقط وفارق الحياة.
شمبانيا سوداء
نشر في: 24 يوليو, 2015: 09:01 م










