TOP

جريدة المدى > عام > استراحة موفق محمد في جنائن سعدي الحلي

استراحة موفق محمد في جنائن سعدي الحلي

نشر في: 27 يوليو, 2015: 12:01 ص

عرف الشاعر موفق محمد بشاعر الأناشيد الجمعية ، المحفوظة بذاكرات الجماعة العاشقة له ، على الرغم من الزحامات الثقافية والفكرية في نصوصه ، بعضها قريب من التلقي والآخر سابت في عمق النص ، هي نصوص حالمة ، ويتكرر الحلم فيها ، ولا تّمل الأحلام في سكنى الشعر .

عرف الشاعر موفق محمد بشاعر الأناشيد الجمعية ، المحفوظة بذاكرات الجماعة العاشقة له ، على الرغم من الزحامات الثقافية والفكرية في نصوصه ، بعضها قريب من التلقي والآخر سابت في عمق النص ، هي نصوص حالمة ، ويتكرر الحلم فيها ، ولا تّمل الأحلام في سكنى الشعر . تلتزم معه لوثيقة وجودية ، للشعر علاقة بالكينونة وهو يضعها في مرآة يصل لها المتلقي لان الشعر لغة / كلام ، والمتكلم ينتجه ، ويجعل منه سكناً للوجود ، لذا صار التكرار في بعض نصوصه منجماً لإنتاج اللغة ، فكلما تكرر الكلام ازدادت اللغة شروقاً كما قال رولان بارت . وكلام الشاعر مغموس بالماء وذاكرته والعشب ومروياته .

 

كلام عن الحياة وخصوبتها ، لان الشاعر في عودته المستمرة للخصوبة يحلم أن يجعل منها معادلاً للدمار والموت . وهو يعي جيداً بأن الموت حياة ، والحياة موت ، كل منهما ينفلت من الآخر ويقاومه ويرفض الانصياع له ، هذا ما يتوصل له المتلقي من خلال المراثي الكثيرة التي كتبها ، أو الأخرى التي يحضر فيها الندب ولا يغيب . ويتمظهر السرد والشفاهيات بالنصوص النواحية ، ووجدت عبر متابعة جديدة وعميقة بأن السرد حاضر في كل النصوص ـ مثلما قلت ـ ومن هنا تميزت نصوص موفق محمد بالغنائية أولاً والطفو على بؤر درامية ، جاذبة للتعامل معها مسرحياً .
تعامل موفق محمد مع جنائن سعدي الحلي باعتبارها نصوصاً بدئية فيها روح المغامرة / جلجامش وطقوس الجنس المقدس ومثل هذه العودة للفجر العراقي الأول معروفة في تجربة الشاعر وميزت نصوصه ، كذلك هذا الاتضاح في هذا النص ، ابتداء من العنونة والتفاصيل الأسطورية احدى وسائل الدفاع عن الذاكرة الموروثة خوفاً عليها من اجتياح الإرهاب . كل هذه التنوعات في تجربة الشاعر ، جعلته صوتاً خاصاً ، فريداً ، ومتفرداً ولم يستطع شاعر آخر من الدنو إليه أو اعادة تمثيله . وهذه الطريقة الخاصة بالكتابة هي أنا الشاعر وذاتيته وتاريخ إبداعه الطويل.
المكان بوصفه عنصراً بنائياً في سرديات موفق الشعرية ، له حضور في ذاكرة الشاعر الفردانية وكذلك الجمعية ، المكان يستيقظ من خلال السرديات الموروثة والمحمولة باعتبارها مجالاً ثقافياً ، وكل نصوص الشاعر سرديات ، حتى النصوص الايقونية ، ويتمتع السرد بتمركز جوهري ، لأنه ـ السرد ـ فاعل حيوي بإنتاج انطولوجية معرفية كما قال بور ريكور .
سرديات المكان الأول / الرحمي ماثلة باستمرار في تجربة موفق لأنها ـ ذاكرة ـ كما قلت ، بدئية ، فيها الاكتشاف الأول والتعرّف . ويزاول الشاعر حياته هو عندما يأخذه الشعر تحو المكان الأثير لديه ، لا يقوى على نسيانه ويتنفسه كالهواء ، بمعنى يمتلك طاقة نادرة لم تتوفر لشاعر أخر ، يتبدّى جنونه بالمكان ، انه يوحد بين المكان والشعر واحدهما ينوب عن الآخر . ومثل هذا المكان له طاقته على التحفيز والإنتاج وقدرته التأثيرية على الشاعر معروفة وواضحة تماماً . وأحيانا يبدو لي موفق محمد متحاوراً مع المكان ، ولا ادري من هو الأنا ومن هو الآخر ؟
حتما سيقول الشاعر هو الأنا ، لأنه المتكلم / الراوي ، لكنني اعتقد بوجود عكس ذلك مثلما ظهر لي في نصه " مجلة الطاق " هي الأنا والشاعر هو الآخر ، لذا ذهب بعيداً لتفعيل آخريته وجعلها فاعلاً اجتماعيا وفنياً .
في نص " جنائن سعدي الحلي " كل السرديات ملاحقة بالشظايا . ولا وجود لمروية خالية من ذلك . لذا تفجرت هنا عناصره الشعرية السخرية / الشتيمة / النكتة / المرثية ، هذه مكوناته الثقافية الشعبية ، وقبلها طفر من التوصيفات التقليدية ، وحازت استجابة للنظريات النقدية والأدبية والنقد الثقافي ، أنها مفتوحة على أرقى ما تعارفت عليه الأفراد من تبادل / وتداول ، وارتقت بكينونتها لتحقق نوعاً من التسامي .
عرف الشاعر العديد من الأماكن ، لكن ذاكرته لم تحتفظ بها لان المخزون فيها يكفيها وتلهم الشاعر أجمل نصوصه ، الراكضة نحو طقوس مائية ، لنهر الحلة ـ وأساطير الخصب الحاضرة في كل ما كتب حتى في العديد من مراثيه . هذا المكان الكلي وتنوعاته الصغيرة ، هو مرويات موفق محمد وذاكرته المزحومة بتلاوين الروح الحلّية ، طراوتها ، جماليات الكامن أو الثاوي ، الذي يستعيد لحظته في غياب ممكنات ولادة نص شعري ، الا بعد زمن طويل . سرديات الشاعر موفق محمد هي الكوامن المختزنة في وعيه ولا شعوره ، تعطيه ما يريد ، وتمنحه طراوة وليونة ، لحظتها يدخل مع مغامرة لا يعرف حدودها ، إلا انه يفتح خزانات مرويات الأمكنة ويوحّد ما بينها ، لتتحول الى سردية ، تفيض بتنوعات تجربته التي صاغت كل هواجسه ومخاوفه عندما يكتب ، حتى يصل الى عتبة صاعدة يصرح باطمئنانه وينام على أحلام اكتمال النص ولا يفصح عن تفاصيله الأكثر دنواً من كينونته ، هو التي تذّوب الأخريات ، ليمنحنا انطولوجية شفافة على فضاءات الحلة التي تشعر بها وهو يسمعك النص ، وكأنه يتلمس متروكات الأمكنة المتجاورة جداً ، كالأصابع مع بعضها ، هي أماكن يخيل إليك وأننا نستمع له يتذوق ماضيها.
وحلاوة السنوات المتدفقة ، لتخلق سيرورة نص ، هو روح الحلة / روح الشاعر ، مثلما هو شجرة لكل الناس الذين أحبهم وكتب عنهم .دائما ما يتولد لدّي سؤال ، له علاقة قوية مع أماكن موفق ، هل البقاء في الحلة ؟ وسفراته النادرة للخارج مع توفرها باستمرار ويرفضها هو الجوهر الروحي لتأثير الأماكن المستدعاة في كل نص ، ومع ذلك تبدو لنا أماكن جديدة ، توفر لنا شفرات التعامل معها وكأنها جديدة .
أنا اعتقد بأن تجربة مثل تجربة موفق محمد لن تغادر سردها ، لا لأنه من خصائصها ، بل سيادة الأماكن الحلية ، تجذبه للموروث الشفاهي العالق في أعماقه والكامن في خزانات ذاكرته . موفق محمد غير قادر على فقدان وقته ، وبشكل أدق زمنه ، الذي يعني لي أزمنة للجماعات التي بجلها وتوجها بالقبول والتشارك وسط فضاء الحلة وجغرافيتها جغرافية غير قابلة للاختزال أو الذوبان ، بل صعب تحقق ذلك أنها الأماكن الأولى ـ الرحم الأول ، وكأنها الأماكن البدئية والبكرية التي أنتجت طقوسها وأساطيرها . واعتقد بأنه موفق محمد هو لسانها.
نصوص الشاعر موفق محمد شحنات وتوترات حاملة رسائل لتنوعات مجتمعية ويعرف المتلقي رسائل الشاعر وشفراته ، خصوصاً المتلقي المرتبط به منذ زمن بعيد ، زمن أول نص كتبه في السبعينات وهذا ما ذكرته في كتابي النقدي عن الشاعر وتكاد تكون المشحنات المتوترة هي الملمح المتميز له . أنها كامنة في كل ما قاله وهي وسائله للمواجهة مع الحياة والعالم ، ويجد الشاعر له مساحة واسعة وعميقة للمواجهة التي لا تتعطل وهو لا يكف عنها ، لأنه ـ كما اعتقد ـ لا يشعر بحياته إلا وسط صخب المواجهة ، هما جوهر تجربته ، حتى صارت كلها مجموعة المرايا الصغيرة ، التمت مع بعضها لتمحنا مرآة كبيرة ، ترى منها تاريخنا وذاكرتنا المحاصرة للشاعر كثيراً ، لذا ينشغل صامتاً بما يفكر به وأحيانا تمتد فكرته سنوات طويلة ، مثلما هو مع نصه الجديد والطويل جداً ، جنائن سعدي الحلي . كم من الأيام والشهور استغرقها هذا النص وكنت اسأله مراراً ويقول لي بأنه يكتب صامتاً .
واعتقد بأن نص موفق لا يعني محاولة بديهية ، مثلما يحصل مع غيره ، بل هو جوهر معرفته ووعيه بما يتوجب عليه أن يكون وبعلاقة لم تغادر الفضاء المميز له لأني ، اعتقد عبر علاقتي مع نصوصه ، بأنها غير متوقفة / أو منقطعة ، بل كامنة بخفاء ، قلت عنه سابقاً بأنه نوع من التناص مع التجربة ذاتها ، وهذا صحيح ، لكني أجد الآن بأن الكوميديا العراقية لم تتوقف في تجربته ، بل ممتدة / مستمرة / حاضرة ، تستيقظ لحظة كتابة نص جديد ، لان النص لديه خاضع للسيرورة الدائمة والمتحركة بتنوعات متغايرة ، وهي مبعث دهشة المستمع أو المتلقي ، مع انبهار متأت من المفاجأة المحفزة بالكامن الوعي أو اللاوعي . هذه السيرورة أحدى خصائص هذه التجربة ، لذا وجدت في هذا بروزاً فنياً للسيرورة التي ذكرتها ، أنها جدل التجربة غير المعطلة أو الساكنة ، بل الراضية بالحضور الدائم ، ولعل المكان / الحلة وتنوعاته الدالة على المكشوف عنها عبر أسماء المجلات .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram