عرف الشاعر موفق محمد بشاعر الأناشيد الجمعية ، المحفوظة بذاكرات الجماعة العاشقة له ، على الرغم من الزحامات الثقافية والفكرية في نصوصه ، بعضها قريب من التلقي والآخر سابت في عمق النص ، هي نصوص حالمة ، ويتكرر الحلم فيها ، ولا تّمل الأحلام في سكنى الشعر .
عرف الشاعر موفق محمد بشاعر الأناشيد الجمعية ، المحفوظة بذاكرات الجماعة العاشقة له ، على الرغم من الزحامات الثقافية والفكرية في نصوصه ، بعضها قريب من التلقي والآخر سابت في عمق النص ، هي نصوص حالمة ، ويتكرر الحلم فيها ، ولا تّمل الأحلام في سكنى الشعر . تلتزم معه لوثيقة وجودية ، للشعر علاقة بالكينونة وهو يضعها في مرآة يصل لها المتلقي لان الشعر لغة / كلام ، والمتكلم ينتجه ، ويجعل منه سكناً للوجود ، لذا صار التكرار في بعض نصوصه منجماً لإنتاج اللغة ، فكلما تكرر الكلام ازدادت اللغة شروقاً كما قال رولان بارت . وكلام الشاعر مغموس بالماء وذاكرته والعشب ومروياته .
كلام عن الحياة وخصوبتها ، لان الشاعر في عودته المستمرة للخصوبة يحلم أن يجعل منها معادلاً للدمار والموت . وهو يعي جيداً بأن الموت حياة ، والحياة موت ، كل منهما ينفلت من الآخر ويقاومه ويرفض الانصياع له ، هذا ما يتوصل له المتلقي من خلال المراثي الكثيرة التي كتبها ، أو الأخرى التي يحضر فيها الندب ولا يغيب . ويتمظهر السرد والشفاهيات بالنصوص النواحية ، ووجدت عبر متابعة جديدة وعميقة بأن السرد حاضر في كل النصوص ـ مثلما قلت ـ ومن هنا تميزت نصوص موفق محمد بالغنائية أولاً والطفو على بؤر درامية ، جاذبة للتعامل معها مسرحياً .
تعامل موفق محمد مع جنائن سعدي الحلي باعتبارها نصوصاً بدئية فيها روح المغامرة / جلجامش وطقوس الجنس المقدس ومثل هذه العودة للفجر العراقي الأول معروفة في تجربة الشاعر وميزت نصوصه ، كذلك هذا الاتضاح في هذا النص ، ابتداء من العنونة والتفاصيل الأسطورية احدى وسائل الدفاع عن الذاكرة الموروثة خوفاً عليها من اجتياح الإرهاب . كل هذه التنوعات في تجربة الشاعر ، جعلته صوتاً خاصاً ، فريداً ، ومتفرداً ولم يستطع شاعر آخر من الدنو إليه أو اعادة تمثيله . وهذه الطريقة الخاصة بالكتابة هي أنا الشاعر وذاتيته وتاريخ إبداعه الطويل.
المكان بوصفه عنصراً بنائياً في سرديات موفق الشعرية ، له حضور في ذاكرة الشاعر الفردانية وكذلك الجمعية ، المكان يستيقظ من خلال السرديات الموروثة والمحمولة باعتبارها مجالاً ثقافياً ، وكل نصوص الشاعر سرديات ، حتى النصوص الايقونية ، ويتمتع السرد بتمركز جوهري ، لأنه ـ السرد ـ فاعل حيوي بإنتاج انطولوجية معرفية كما قال بور ريكور .
سرديات المكان الأول / الرحمي ماثلة باستمرار في تجربة موفق لأنها ـ ذاكرة ـ كما قلت ، بدئية ، فيها الاكتشاف الأول والتعرّف . ويزاول الشاعر حياته هو عندما يأخذه الشعر تحو المكان الأثير لديه ، لا يقوى على نسيانه ويتنفسه كالهواء ، بمعنى يمتلك طاقة نادرة لم تتوفر لشاعر أخر ، يتبدّى جنونه بالمكان ، انه يوحد بين المكان والشعر واحدهما ينوب عن الآخر . ومثل هذا المكان له طاقته على التحفيز والإنتاج وقدرته التأثيرية على الشاعر معروفة وواضحة تماماً . وأحيانا يبدو لي موفق محمد متحاوراً مع المكان ، ولا ادري من هو الأنا ومن هو الآخر ؟
حتما سيقول الشاعر هو الأنا ، لأنه المتكلم / الراوي ، لكنني اعتقد بوجود عكس ذلك مثلما ظهر لي في نصه " مجلة الطاق " هي الأنا والشاعر هو الآخر ، لذا ذهب بعيداً لتفعيل آخريته وجعلها فاعلاً اجتماعيا وفنياً .
في نص " جنائن سعدي الحلي " كل السرديات ملاحقة بالشظايا . ولا وجود لمروية خالية من ذلك . لذا تفجرت هنا عناصره الشعرية السخرية / الشتيمة / النكتة / المرثية ، هذه مكوناته الثقافية الشعبية ، وقبلها طفر من التوصيفات التقليدية ، وحازت استجابة للنظريات النقدية والأدبية والنقد الثقافي ، أنها مفتوحة على أرقى ما تعارفت عليه الأفراد من تبادل / وتداول ، وارتقت بكينونتها لتحقق نوعاً من التسامي .
عرف الشاعر العديد من الأماكن ، لكن ذاكرته لم تحتفظ بها لان المخزون فيها يكفيها وتلهم الشاعر أجمل نصوصه ، الراكضة نحو طقوس مائية ، لنهر الحلة ـ وأساطير الخصب الحاضرة في كل ما كتب حتى في العديد من مراثيه . هذا المكان الكلي وتنوعاته الصغيرة ، هو مرويات موفق محمد وذاكرته المزحومة بتلاوين الروح الحلّية ، طراوتها ، جماليات الكامن أو الثاوي ، الذي يستعيد لحظته في غياب ممكنات ولادة نص شعري ، الا بعد زمن طويل . سرديات الشاعر موفق محمد هي الكوامن المختزنة في وعيه ولا شعوره ، تعطيه ما يريد ، وتمنحه طراوة وليونة ، لحظتها يدخل مع مغامرة لا يعرف حدودها ، إلا انه يفتح خزانات مرويات الأمكنة ويوحّد ما بينها ، لتتحول الى سردية ، تفيض بتنوعات تجربته التي صاغت كل هواجسه ومخاوفه عندما يكتب ، حتى يصل الى عتبة صاعدة يصرح باطمئنانه وينام على أحلام اكتمال النص ولا يفصح عن تفاصيله الأكثر دنواً من كينونته ، هو التي تذّوب الأخريات ، ليمنحنا انطولوجية شفافة على فضاءات الحلة التي تشعر بها وهو يسمعك النص ، وكأنه يتلمس متروكات الأمكنة المتجاورة جداً ، كالأصابع مع بعضها ، هي أماكن يخيل إليك وأننا نستمع له يتذوق ماضيها.
وحلاوة السنوات المتدفقة ، لتخلق سيرورة نص ، هو روح الحلة / روح الشاعر ، مثلما هو شجرة لكل الناس الذين أحبهم وكتب عنهم .دائما ما يتولد لدّي سؤال ، له علاقة قوية مع أماكن موفق ، هل البقاء في الحلة ؟ وسفراته النادرة للخارج مع توفرها باستمرار ويرفضها هو الجوهر الروحي لتأثير الأماكن المستدعاة في كل نص ، ومع ذلك تبدو لنا أماكن جديدة ، توفر لنا شفرات التعامل معها وكأنها جديدة .
أنا اعتقد بأن تجربة مثل تجربة موفق محمد لن تغادر سردها ، لا لأنه من خصائصها ، بل سيادة الأماكن الحلية ، تجذبه للموروث الشفاهي العالق في أعماقه والكامن في خزانات ذاكرته . موفق محمد غير قادر على فقدان وقته ، وبشكل أدق زمنه ، الذي يعني لي أزمنة للجماعات التي بجلها وتوجها بالقبول والتشارك وسط فضاء الحلة وجغرافيتها جغرافية غير قابلة للاختزال أو الذوبان ، بل صعب تحقق ذلك أنها الأماكن الأولى ـ الرحم الأول ، وكأنها الأماكن البدئية والبكرية التي أنتجت طقوسها وأساطيرها . واعتقد بأنه موفق محمد هو لسانها.
نصوص الشاعر موفق محمد شحنات وتوترات حاملة رسائل لتنوعات مجتمعية ويعرف المتلقي رسائل الشاعر وشفراته ، خصوصاً المتلقي المرتبط به منذ زمن بعيد ، زمن أول نص كتبه في السبعينات وهذا ما ذكرته في كتابي النقدي عن الشاعر وتكاد تكون المشحنات المتوترة هي الملمح المتميز له . أنها كامنة في كل ما قاله وهي وسائله للمواجهة مع الحياة والعالم ، ويجد الشاعر له مساحة واسعة وعميقة للمواجهة التي لا تتعطل وهو لا يكف عنها ، لأنه ـ كما اعتقد ـ لا يشعر بحياته إلا وسط صخب المواجهة ، هما جوهر تجربته ، حتى صارت كلها مجموعة المرايا الصغيرة ، التمت مع بعضها لتمحنا مرآة كبيرة ، ترى منها تاريخنا وذاكرتنا المحاصرة للشاعر كثيراً ، لذا ينشغل صامتاً بما يفكر به وأحيانا تمتد فكرته سنوات طويلة ، مثلما هو مع نصه الجديد والطويل جداً ، جنائن سعدي الحلي . كم من الأيام والشهور استغرقها هذا النص وكنت اسأله مراراً ويقول لي بأنه يكتب صامتاً .
واعتقد بأن نص موفق لا يعني محاولة بديهية ، مثلما يحصل مع غيره ، بل هو جوهر معرفته ووعيه بما يتوجب عليه أن يكون وبعلاقة لم تغادر الفضاء المميز له لأني ، اعتقد عبر علاقتي مع نصوصه ، بأنها غير متوقفة / أو منقطعة ، بل كامنة بخفاء ، قلت عنه سابقاً بأنه نوع من التناص مع التجربة ذاتها ، وهذا صحيح ، لكني أجد الآن بأن الكوميديا العراقية لم تتوقف في تجربته ، بل ممتدة / مستمرة / حاضرة ، تستيقظ لحظة كتابة نص جديد ، لان النص لديه خاضع للسيرورة الدائمة والمتحركة بتنوعات متغايرة ، وهي مبعث دهشة المستمع أو المتلقي ، مع انبهار متأت من المفاجأة المحفزة بالكامن الوعي أو اللاوعي . هذه السيرورة أحدى خصائص هذه التجربة ، لذا وجدت في هذا بروزاً فنياً للسيرورة التي ذكرتها ، أنها جدل التجربة غير المعطلة أو الساكنة ، بل الراضية بالحضور الدائم ، ولعل المكان / الحلة وتنوعاته الدالة على المكشوف عنها عبر أسماء المجلات .