تغرينا الكتابة عن الحب وعن المحبوب وتفانيه في حبه ووفائه للحبيب .. تغرينا حين نجد في الكتابة تعويضا عن خساراتنا او ما نعانيه في حياتنا اليومية التي ملأها اللصوص والأميون الجهلاء رعبا وقسوة , حتى غدت تلك الحياة وذلكم البشر عبارة عن كائنات هائمة في دني
تغرينا الكتابة عن الحب وعن المحبوب وتفانيه في حبه ووفائه للحبيب .. تغرينا حين نجد في الكتابة تعويضا عن خساراتنا او ما نعانيه في حياتنا اليومية التي ملأها اللصوص والأميون الجهلاء رعبا وقسوة , حتى غدت تلك الحياة وذلكم البشر عبارة عن كائنات هائمة في دنياها المسطحة او كأنها عدم مشاع بيننا ... ويأخذ المحبوب بأيدينا الى بر الأمان او الى حالة استثنائية لا يعقلها المرء..
في مشهد صعب تقوم به الممثلة المصرية البارعة (منّة شلبي) في مسلسل ـــ حارة اليهود ــــ وهي تؤدي دور فتاة يهودية تتعلق بشاب مصري , كما يتعلق هو الآخر بها ( حب وعشق متوازن لا تسيّد لاحدهما على الاخر ) .. المتابع للمسلسل يكتشف نفسه داخل عدد من المشاهد الصعبة والتي لابد ان يكون له في حقيقتها رأي صريح ، وهي شأنها شأن المواقف المؤثره فينا والتي تحاور عقولنا وتحتوي عواطفنا بقوة الفن والحكمة والجمال ايضا ، تلك هي خصيصة الابداع القويه حين يأتي الينا محكم البنيان او يعتمد الجرأة والصراحة حتى ولو كانت مُرة ... لست هنا بصدد نقد المسلسل او تعظيمه ، تلك مهمة غيري من الزملاء الآخرين . إنما ما يعنيني هنا هو لقطة مذهلة من الحب الخالص تقدمه هذه الممثلة المتميزة ( منة شلبي ) عندما تتورط في الذهاب الى اسرائيل , يتم انتزاعها من بين حشد من عرب فلسطين كانوا يتجمهرون تعبيرا عن فرح خاص بهم , كانت الفتاة المصرية ـــ اليهودية قد شاركت عرب فلسطين تلك اللحظة افراحهم , غير ان هذا لا يروق لابناء قومها اليهود هنا يتقدم رهط من رجال البوليس لجرها عنوة واخراجها من حشد الفلسطينين بالقوة , ليس امامها الا البكاء وسيل من الدموع وفمها يصرخ : (( اريد العودة الى بلدي )) . غير ان اللقطة تلك تحبس انفاس المشاهد دقائق حتى تغيب صاحبة الصرخة عن الشاشة ولكن الوجه المستغيث بالمحبوب لا يختفي من اذهاننا ابدا . انها صيحة استغاثة المحب بمحبوبه البعيد عنه وهو يعرف ان محبوبه لا يسمعه قط ... نحن لا نريد محبوبا لا يسمعنا حين نناديه و نطلب العون منه وكم من عشاق افترقوا حالما تبادر الى قلبيهما الشك في الاخلاص والتفاني .. من المحتمل اني سأعود الى لقطة مشهد حارة اليهود او اكتفي بما قدمته منها ولكن دعوني اذكركم ،وانا معكم، انه لا يمكن لي نسيان المشاهد التي شاهدناها او قرأناها من قبل , انها لقطة او بالحري مشهد قرأناه معا عن حياة الكاتب الروائي النمساوي ستيفان زيفايج وزوجته التي شاركته السراء والضراء خلال الحرب العالمية الثانية , عندما استولى الفاشست على مقاليد السلطة في المانيا , هرب العديد من ادباء ومفكري المانيا الاحرار , الكثير منهم ذهب الى اوربا وفرنسا وبريطانيا وبعضهم الى امريكا , اما ستيفان زفايج وزوجته , فقد ظلا يتنقلان في اقطار عدة حتى انتهيا الى ابعد بلد بالنسبة لهما الا وهو البرازيل , في البرازيل ستكون نهاية المحب العاشق ستيفان زفايج الذي توله بحب اوروبا وعشقها حد الجنون بحضارتها .. اوروبا صانعة المدنيه والتطور والعقلانية والحكمة والفلسفة كيف لها ان تتصرف كقطيع من الهمج او من شذاذي الآفاق .. عاشق اوروبا لم يحتمل رؤية الخراب وهويزحف على المعمورة بسبب نزوة رجل مجنون انقادت له اوروبا وأولها المانيا المتحضرة المقتدرة في فنونها وعلومها , ما كان من ستيفان زيفاتج الا إنهاء حياته التي خربها جنون الساسة البلهاء .. النهاية المؤلمة جرت على زوجته المحبة والعاشقة له , أي انهما اتفقا على الرحيل الأبدي معا وبطريقة فتح صمام قنينة الغاز في غرفة مغلقة تماما .. لعل السؤال المحير لا يقع في دائرة كاتبنا زفايج بل يخص زوجته , كيف هيأت لها القناعه ان ترحل عن هذه الدنيا بالاتفاق مع الزوج وبكل هذه البساطه ؟ لعل الامر يجرنا لمعنى اخلاص الزوجه/العاشقه للزوج الذي تحبه وتخلص لآرائه وتوصلاته ؟ كيف يحدث ان تتطابق افكار الزوجة المحبة الى حد الموافقة على الفناء في ظلال المحبوب ؟.. كلما أتذكر تلك اللحظة المخيفة التي واجهها الكاتب النمساوي مع زوجته أُصاب بحالة اكتئاب وحزن عليه : أية مشاعر وأية احاسيس وافكار مضطربة انتابته ؟ ما هي اخر كلمة رددها ؟ نعم , رب قائل يقول لي الآن : والذي يحدث على صعيد الواقع اليومي العياني من دمار وموت في بلادنا الا يعنيك ؟ الا يجعلك في حالة ذهول وعجب ؟
نعم يعنيني وقد اصابني بالحيرة والألم , ولا اخفي ما انا عليه من عجز وارتباك , ولكن لنكن صريحين , ألسنا متفقين ان من استولى بالمصادفة السيئة على ادارة البلاد وتحكم بمقاديرها هو سبب البلاء؟ وهم مجموعة من الناس الذين لا يعنيهم غير انفسهم , ألسنا نحن من جئنا بهم الى دفة الحكم ؟؟؟ كيف لا تعنيني الحالة التي عليها بلدي ولم اترك قصة او مقالة الاّ وأشرت من خلالها الى العراق الذي نحبه اكثر من اولادنا وامهاتنا وحبيباتنا ..
حسنا , دعونا نتذكر جيدا اول حب صرعنا بنظرته العاطفية الحنونة ؟ اول مرة تتلاقى فيها أيدينا المرتعشة بأنامل المحبوب وهو مزهو بجماله الفتّان ؟ ياإلهي اول كلمة حب تمنحها شفاهنا الى المحبوب وهو ذاهل لمرأى الحبيب وكيف يحتويه بنظرة تخترق روحه اللائبة ؟ ماذا تلفظنا بحضرة المحبوب من كلمات وقد سيطرت علينا حالة من الإرباك والتلعثم ؟ هل سمعنا ملاكنا يستجيب لنداء ارواحنا ؟ العديد منا من جعل احدى ممثلات السينما ملاكا له يخلو به ويلجأ اليه وربما كتب له الرسائل الدامعة ؟ فنانات امريكيات واوربيات فاتنات وحتى ممثلات عربيات , كانت ممثلات السينما الستينيه خارقات الجمال وكنا نحن اولاد الفقراء نوزعهن فيما بيننا .. كم ضعيف هو العاشق الذي اسلم قياده الى الملاك المرعب , كل ملاك مرعب , لست انا القائل بذلك بل (ريلكه) الشاعر الالماني في قصائده العبقرية التي ترجمها الشاعر اللبناني , فؤاد رفقة :
من , اذا ما صرخت , يسمعني من الملائكة؟
حتى لو ضمّني احدهم فجأة الى قلبه فإني
أموت من وجوده الأقوى . لأن الجمال لاشيء
سوى بداية الرعب الذي يكاد لا يحتمل
ونحن نعجب لأنه براحة يأنف
من ان يحطمنا . كل ملاك مرعب.