ما شاهدت كاميرا لاي قناة تلفزيونية فرنسية قامت بتغطية فعاليات مهرجان الشعر العالمي المقام الآن في سيت، لان الناس تستقي الشعر طرياً كما تنفس به الشعراء الذين اتوا من كل بقاع الارض المحيطة بالمتوسط، والذين هم ابعد من ذلك، فقد اغلقت ادارة المهرجان بالخشب الملون البسيط الازقة التي تؤدي الى مبناها الجميل، الذي يتوسط البيوت، ولان الشعر من الوان ونبيذ وموسيقى، من زرقة المتوسط واصوات المنشدين فقد استمرأ السكان وجود الشعراء بينهم، الفوا حضورهم فهم يصبحون بوجوههم ويمسون ايضاً ،لا بل سكن الكثير منهم في بيوت هؤلاء. صاروا جزءا من الأسر واصحاب المقاهي والحانات وباعة الاسواق والصيادين ... الشعر والشعراء ضيوف على المدينة التي تتحول مرة كل عام الى بهجة من طراز خاص.
كنت دخلت (سيت)المدينة التي يقام فيها مهرجان ( اصوات حية) قادما لها بالقطار من مرسيليا، حيث القت الطائرة بي قادما لها من اسطنبول، والتي جئت اليها من البصرة، كنت اتحسس الضياع، في بادئ الامر، انا الذي لا يعرف من الفرنسية سوى مفردة ( بنجور) لكنني في المحطة التي اخذتني لها مركبة المطار الصغيرة بالمجان، اعلمني احدهم بان انتظر قليلاً، وفي بحر من دقائق قليلة وصل القطار النازل الى سيت. كان الشعر متاحاً عبر صورة المدينة، عبر احتفاء الناس بالحياة وليس من خلال القصائد التي يتلوها الشعراء في اماكن متفرقة من المدينة.
ولتبيان الصورة اكثر فقد كان (الفستيفال) هكذا يسمّى عند اهل سيت، -فهم ألفوا الشعر منذ ان بداية فعاليات المهرجان، قبل نحو من عشرين سنة- تتحول المدينة البحرية الجميلة الى منصات كثيرة، وفي ذات اللحظة يُقرأ الشعر في ازقتها وحاراتها وحاناتها وفي بطون القوارب الكثيرة التي تملأ بحرها وخلجانها، والامر يفوق التصور، يتجاوز حدود الذهن، إذ لا تتذمر أسرة، اي أسرة في سيت من وجود الكراسي والطاولات واجهزة الصوت وعشرات المستمعين امام منزلهم، ذلك لان الشعر والموسيقى والالوان جزء من مفردات الحياة هنا، حيث لا احد يدّعي الشعر، ولا احد ينسبه لنفسه ما لم يكن محترق فيه. ومنذ الصباح حيث تبدأ الفعاليات تقف النسوة على الشرفات الصغيرة لمنازلهم، حيث ينشرن الغسيل، بنطلونات جينز قصيرة وسوتيانات وكولسونات وملابس داخلية اخرى، هكذا. يستمعن، يصغين لما يقوله الشعراء ولما يطلقه الموسيقيون والمنشدون من اصوات، في كرنفال سيتكرر على مدى ايام المهرجان التسعة.
امس، كنت مع شاعرة من ليبيا، تقيم في المانيا قد قرأت بضعا من قصائدي، ولأن جهة التنظيم تعرف كل شيء عن الشعراء فقد استقدموا منشدة فرنسية، اوبرالية هي الاعذب صوتاً والاجمل بين النساء وجها وملامح ، منشدة تضوّع رقة ، وحين فرغت من قراءة القصائد، فوجئت بها وهي تنشد اغنية( فوق النخل فوق .... ) بصوت اخذني الى بغداد ودجلة والشناشيل وباب المعظم والبصرة وبيوت الباشوات، انا المسكون بالشعر والآلام والتباريح.
النسوة في سيت هن اكثر المنصتات للشعر، يأتين مع كلابهن، مع فطائر القمح والجبن بمكياج بسيط وبثياب قصيرة لا تحجب الا القليل من مكامن ضعف الرجال. الرجال هنا لا ينظرون لمفاتن الجسد، المفاتن هنا من نوع خاص ، هي حق الناس في ما يلبسون ويستمعون. لكن سيت مدينة مسكونة بالشعر، سائق الباص يدلك على الفيستيفال، وعابرو السبل يرشدونك الى الامكنة، وفي الازقة الضيقة ، في منحدرات المقاهي والحانات لا تعدم من تود الاستماع اليه والنظر في وجهه .
لا تقتصر قراءة الشعر على المنصات، بل ليس هنالك من منصات، الشعر يُقرأ على الارصفة، امام البيوت، وسط الشارع، والجمهور يفترش الارض ان لم يجد مقعدا، لم يفعلوا ما يغضب الناس، الناس هنا لا تغضب، هم صامتون، لا تسمع لهم جلبة، ولا يتذمرون من وجود عشرات الشعراء والمستمعين امام بيوتهم، هم يبتسمون ويدخلون. الاطفال ايضاً وجدوا في المشهد ما يعطلهم عن الضجر والطلبات الثانوية ومن هؤلاء اردنا ان نتعلم ماذا يعني ان يكون الانسان شاعراً، ليس الشعر قضية عابرة، هو البهجة تتحكم بمريديها، تنقلهم من خراب الايام الى اللحظة العاقلة، الشعر في سيت مكمل لما ابتدأ به الانسان من جمال وسعادات.
كانت حديقة " لوشاتودو" والتي تعني حديقة قصر الماء وكذلك " بلاسدوليفغ" والتي تعني ساحة الكتاب وامكنة اخرى قد علمتنا ان الشعر قضية للمشتغلين بصناعة البهجة، قضية لا يعرفها سوى القليل ممن قضوا نهاراتهم ولياليهم وهم يضيئون مصابيح أعينهم لكي يخلد العالم بسلام
حين يكون الشعر متاحاً على الارصفة
[post-views]
نشر في: 28 يوليو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...