قرأت في الصحف خبر مقتل مدير مدرسة في البصرة اثناء توزيعه رواتب المدرسين الذين معه في المدرسة، ثم خبر موت معاونه متأثراً بجراح اصيب بها من قبل اللصوص الذين سرقوا او حاولوا سرقة مرتبات المدرسين. خبر كهذا إن اسمعته للاصدقاء الشعراء العرب فسيصدقونه، لكنني اذا اخبرته للاخرين، من غير العرب لن يصدقني احد منهم،. افكر في ذلك وانا ارتب مادة هذه للجريدة، حيث تضع السيدة صاحبة الحانة كوب القهوة امامي وتبتسم. حيث ترتطم موجات متهكتة في الضفة الصخرية فتنبعث قصيدة . قضية مثل القتل والتفجير والسرقة والاحتراب بين قبيلتين واشياء اخرى لم تعد في ثقافة الفرنسيين او غيرهم من سكان دول العالم المتقدم. هي خاصتنا، نحن القادمين من مدن الموت والشمس المحرقة والالام .
امس اخذتني احدى الصبيات اللواتي تبرعن للعمل ضمن فريق مهرجان الشعر في سيت، صحبة عدد من الشعراء الى القناة، التي تشق وسط الضاحية، - ما اكثر والطف وأجمل القنوات التي تشق المدينة - هناك حيث كان بانتظارنا عدد من اصحاب القوارب والمجذّفين وجمهور اتى لتحيتنا وسماع قصائدنا. وفي نزهة اسطورية، سارت القوارب، كل شاعر في قارب مع مترجمه الى الفرنسية، وسط القناة التي تحيطها المنازل والحانات والمقاهي والمتاجر، حتى اذا بلغنا منطقة صمتت فيها الامواج وهدأ عندها اصطفاق المجاذيف قالوا لنا لتقرأ الشعر لنا هنا. كانت القصائد مترجمة الى الفرنسية. ولان الناس هنا لا يطيقون الالم، غير قادرين على تأمل حزمة الاوجاع التي نحملها، نحن الشعراء العرب، فقد كنت ابحث في القصائد، قصائدي عن ما ينسجم مع احساسهم بالجمال وتعلقهم بلحظات الفرح التي ينتظرونها خلال قراءتي، فقرأت ما امكنني من ذلك، غير اني وجدت ان قصائد الفرح عندي قليلة جداً.
معظم جمهور الشعر في مدينة سيت هم من النساء، وهنالك الكثير من الرجال ممن هم بعمر السبعين وحتى الثمانين، نساء ورجال، شيوخ باعمار من تقاعدوا عن البهجة والمسرات لدينا ، وعجائز بان هزال ايديهن، حملن حقائبهن وبقبعات يتقين بها الشمس او مظلات يتقين بها المطر رحن، يجلسن كل يوم، مستمتعات بالشعر وهو يُقرأ بكل اللغات وبالموسيقى وهي تنسرح بين الازقة، او تنساب حتى ضفتي القناة ومن هناك الى البحر.
في سيت، لا تعدم من تستوقفك وسط الجادة وهي تتطلع في وجهك وتتفحص سمرتك او وهي تقرأ في لوح الباج الخاص بك لتسألك عن البلاد التي قدمت منها، كنت اكثر الناس حرجاً، لان كل من سألتني وعرفت بأنني من العراق اوسعتها الماً واسفا لما انا وملتي فيه، وكلما كنت احاول تبيان ما نحن فيه تزداد رعباً، حتى وصفي لهن بانني قادم من جنوبي العراق، وهو مكان آمن، ليس فيه ما يخشى منه على الحياة، كنت اتحسست اخفاقي في عدم استطاعتي رسم صورة مثلى عن بلادي. الناس هنا لا يعرفون عن العراق اكثر من داعش والبغدادي والنفط المسروق من الامريكان والمالكي الذي اوصلنا الى ما نحن عليه، نعم يعرفون المالكي على انه كان اخفق كثيرا في ادارة شؤون البلاد.
يصف سكان سيت مدينتهم بانها قرية صغيرة، تقع في الجنوب الفرنسي، على المتوسط، وينصحوىننا بالذهاب الى مونبلييه او مرسيليا او ايشون فهناك سنجد المتاجر الكبيرة وسنعثر على ضالتنا في الملابس والحقائب والاشياء الاخرى، وهم محقون في ذلك لان سيت مدينة، قرية صغيرة، شوارعها ضيقة، وهي تغفو باكرا، ثم ان المحال التجارية تغلق بعد السابعة مساء، وهي بلا شرطة ولا دائرة للامن، لم ار مسدسا بيد طفل صغير حتى، لم اسمع شتيمة من احد لاحد، وكل ما سمعته ورأيته كان خالصا للشعر والموسيقى والرقص والنبيذ والسمك والقبلات، كل الاجساد التي كانت تعبر الازقة والحانات كانت مطلقة في الشمس والمطر وتحت المظلات، آمنة من اعين الفضوليين . يرشدونك للحانة مثلما يرشدونك للمكتبة وللمقهى ولبائع الفاكهة.
في سيت تعلمت بان الشرف اكبر من قطعة القماش الصغيرة التي تنحشر بين الفخذين. اكتب المادة هذه في الحانة التي تقاسمني الطاولة فيها إمراة بعمر برعم تملص من جذع شجرته الام امس، تهدل قميصها ولم تابه، وبان نصف صدرها وهي منشغلة تحدث لابتوبها. تركت حقيبتها على الطاولة وذهبت للحمام ، شربت كأس النبيذ على عجل ومضت . اما انا فقد كنت الملم خجلي وآلامي وذهولي في نظرة يتيمة ساخرة، مستعجلاً الطريق التي ستأخذني للبصرة، هناك حيث قتل اللصوص مدير مدرسة البهادرية وسرقوا رواتب المدرسين الذين معه
الموت في البصرة والشعر والموسيقى في سيت
[post-views]
نشر في: 4 أغسطس, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...