ليست هناك متعة بالنسبة أكبر من متعة مشاهدة فيلم يدور حول حياة رسام أحبه . ففي كل مرة أنسجم تماماً مع ما يمر أمامي من مشاهد وأنا أرى أيقوناتي المفضلة وهي تتحرك حيَّة من لحم ودم ومشاعر لتعيد الحياة الى فترة مهمة من الفن ، تضع بين أيدينا أياماً مرَّت وذهبت بعيداً لكنها استقرت في الذاكرة كجزء من تاريخ الفن الحافل بالبطولات الملونة التي لا تكف عن الظهور الى العلن كلما استحضرنا شيئاً من ذلك التاريخ أو قلبنا صفحة من تلك الأيام الخالدة . بمتعة من هذا النوع شاهدت الفيلم البريطاني ( السيد تيرنر) للمخرج مايك لي ، حيث جسد شخصية تيرنر الممثل تيموثي سبال الذي قدمه باقتدار وأظهر الجوانب العديدة من شخصية الرسام بسخريته وهمهماته وحتى فظاظته في بعض الأحيان . صور الفيلم آخر 25 سنة من حياة الرسام الرومانتيكي حيث أجواء القرن التاسع عشر وتلك الأزياء المدهشة والأكسسوارات المتعلقة بها وكذلك الأماكن التي صورت فيها المشاهد وهي تحيلنا الى تلك المناخات والأحداث وتجعلنا وكأننا جزء منها.
ما أروع الرسم حين يكون على يد رسام مثل وليم تيرنر (1775-1851) هذا الرسام الذي أثار جدلاً كبيراً في حياته وأثَّر على كل من حوله وهو يرسم لوحاته التي يكتنف أجوائها الغموض والأضواء المنبثقة مثل الصاعقة وقد اهتم برسم المشاهد البحرية ليظهر السفن وسط ضباب أو بحر هائج حيث تترنح الصواري وسط الأمواج والعواصف تعصف بأشرعة المراكب الكبيرة ، وكذلك أظهر في أعمال كثيرة له حرائق السفن المشتبكة مع بعضها في معركة بحرية حيث زرقة البحر توشك على سحبها نحو الأعماق البعيدة . وهكذا ألهمت أعماله الكثير من الفنانين وامتد تأثيره ليشمل فرنسا حيث فتح الطريق أمام الانطباعيين الذين أخذوا منه تلك الحرية في الرسم وسط رقشات ضبابية متداخلة . كذلك ألقى بظلاله الواضحة على الرسم التجريدي فيما بعد ، هو الذي ابتعد عن رسم التفاصيل وفرش ألوانه بحرية على سطح قماشات الرسم .
يعتبر تيرنر أهم فنان أنجبته بريطانيا على مرّ العصور هو الذي تفرغ للوحاته ، وقد بدأ بالبحر وانتهى به ومات قربه حيث ترك بيته الأول لينتقل الى الجانب الآخر من لندن وكأنه أراد أن يستمع الى صوت الأموات وهي تحيط بمرسمه وبيته ، هي نفسها تلك الأموات التي رسمها مراراً في أعماله .
توفي تيرنر وترك ثروة كبيرة من الأعمال الخالدة التي يتطلع إليها الناس بمحبة وفخر وحيرة وانبهار أكيد من تقنيات فنان سبق عصره بكل المقاييس . ترك أعماله هو الذي رفض بيعها في آخر حياته وقد سخر من عرض مغرٍ من أحد أثرياء لندن حين قدَّم له مئة ألف باون ثمناً لكل أعماله الموجودة في مشغله وحتى أدواته التي يستعملها ، لكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً وسط استغراب الجميع رغم الثمن الأسطوري الذي سيتقاضاه مقابل ذلك ، وقال بأنه لا يريد أن تسجن أعماله في مكان واحد ولدى شخص معين ، فهو يريدها للجميع ، انها ملك الناس والبلد والتاريخ . وهذا درس آخر يعطيه تيرنر حول الفن الذي يتسع جماله ويمتد الى الناس ويشمل مناطق عديدة ، لا تحده حدود مثل سفنه التي كان يرسمها حيث لا تحدها أموات بحر أو هيجان عواصف .
مضى هذا الرسام بعيداً الى العالم الآخر وبقيت زوجته تتذكره مبتسمة وهي تنظف الزجاج العلوي من باب البيت ، تمسحها بقطعة قماش مبللة فيظهر وجهها من خلال الزجاج ضبابياً فيه بعض الغياب وكأنه واحدة من أيقونات زوجها العبقري .
ملك الضباب
[post-views]
نشر في: 7 أغسطس, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...