TOP

جريدة المدى > عام > للمستقبل رأي آخر

للمستقبل رأي آخر

نشر في: 9 أغسطس, 2015: 12:01 ص

لم تبدأ هذه المسألة من النشاط الاجتماعي العام ولا من النظم الادارية ولا من المختبرات العلمية. هذه بدأت من الدراسات اللغوية واتساع دراسات التناص. هما أوصلاها من الادب الى فن العمارة وفن الرسم ثم الدراسات الفلسفية والمعتقدات. ففي وقت المناداة بالحداثة،

لم تبدأ هذه المسألة من النشاط الاجتماعي العام ولا من النظم الادارية ولا من المختبرات العلمية. هذه بدأت من الدراسات اللغوية واتساع دراسات التناص. هما أوصلاها من الادب الى فن العمارة وفن الرسم ثم الدراسات الفلسفية والمعتقدات.
ففي وقت المناداة بالحداثة، لجعل الأدب جديداً ونتاج عصره، صار المعماريون بعد الحداثيين يمارسون ما يمكن ان نسميه بالعمارة التناصية،التي تخصص انماطاً من مختلف العصور وتجمعها حاضرةً، مرئيةً أو مخفية، داخل السياقات الجديدة. فهم، المعماريون، يغذوّن الجديد بما "كان" امتيازاً.
في الأدب كانت الدعوة واضحةً لتفكيك النصوص وقراءتها قراءة جديدة. هذا يعني توجيها لكتابات جديدة تأخذ في حسابها ممارسات جديدة للنقد وقراءات جديدة للنصوص. وعلى خلاف التوقع، كشفت القراءات الجديدة عن كتابات سابقة مضمرة انتظمت في السياق الجديد واكتسبت هي سياقا جديدا. فهي انتقلت من زمنها او ان الجديد استلّها من هناك الى نسيجه. كان الغرض الرئيس للدارسين هو كشف العقل المُنتِج ومصادره. ولذلك كان مدعاة لاهتمام الاجتماعيين. في حالَيْ المعمار والأدب، ثمة اتصال بلحظات استنارة تضع مقتنيات "سبقت" ضمن مدار الانتاج الجديد (والتصور الجديد) لتصنع منها أو لتؤلف منها، جديداً. وهكذا اتضح الانتماء الى الانثروبولوجيا، وهكذا عمل التحليل النقدي على كشف مكونات المادة الخام التي يصنع منها المؤلف الجديد، أو المعماري الجديد، عمله.
حضور التكنولوجيا احدث تغييراً صعباً وخطيراً في استقرار الانماط في الكتابة وفي الرسم وفي المعمار وصار يتضح في الموسيقى على نطاق شعبي. قبل الطباعة كان الكتاب نادراً. كان عزيزاً وهو من مقتنيات بعض العلماء والنخبة ولا يحدث تغيير في شكله وطريقة انتاجه الا عبر عقود. كانت للانماط الكتابية ولاخراج الكتاب اعمار طويلة ونصوص يتداولها راوٍ عن راوٍ..
بعد الطباعة اتسع الحال او الانتشار لم يعد الاعتزاز الاول بقوته ولا ذاك الحرص. بعد اجهزة الاستنساخ صار ممكنا للعديد من الناس الحصول على اللوحة في حالها العام وللحصول على الكتاب وعلى المقال فرصةً اوسع وأيسر. وصار ممكناً أيضاً الحصول على نسخة مصورة من المخطوط الاصل. اشاع هذا انماطاً من الكتابة والتصوير والعمارة، انماطاً واسعة التكرار وانماطا من الكتابة الرائجة بثيمات أساسية: التجسس، الجنس، الاحتيال والمغامرة .. هي كتب الجيب في القطارات ومحطات الانتظار. مثلها رسوم سريعة واسعة الانتشار. مثلها تلاحين سريعة ونمطية بتغييرات بسيطة وساذجة، تسود في النوادي والحفلات. عدد الاوركسترات قليل جداً، نادر، وأحياناً معدوم. النماذج المعمارية عالية المستوى، علماً وفناً، اقتصرت على الفنادق العليا، المطارات ومؤسسات الدولة المهمة. احياناً بعض الكنائس ومساجد قليلة معدودة. البيوت والعمارات السكنية ظلت نمطية الاشكال، متشابهة في المشهد العام وفي التفاصيل الداخلية. بساطة بسبب محدودية الكُلَف وعدد الوحدات الكبير. أيضاً، التفكير النمطي بأن أولاء الساكنين لا يحتاجون الى فن ويريدون سقفاً ! فضلا عن النمطية في اشكال الكتب وفي الرسم والمنشآت والموسيقى ثمة نمطية أيضاً في اطباق الطعام أو وجباتها. المطاعم ذوات التقاليد ظلت للمناسبات وشاعت الوجبات السريعة. سببها محدودية السعر وسعة المبيع. في الخمسينات كتب المرحوم احمد حسن الزيات مقالة بعنوان "أدب السندويج".
انا لا أنظر للظاهرة بتقليل شأن، كما رآها استاذنا الزيات ولكني اراها ظاهرة لتحولات اساليب العيش. هي ظاهرة ثقافية وراءها عدد ساعات العمل والمواصلات وضائقة الوقت. لكنها أيضاً ظاهرة تكشف عن بدايات جديدة او جماليات ناشئة قد تكون ايضا من امتيازات الحداثة. هذه الظاهرة تعكس رغبة شعبية مضادة لجماليات النخبة. وهذه تستوجب دراسة متأنية يقوم بها فريق من المتخصصين، تفرز الروح الشعبي المتقدم والمُلِحّ على الحضور وتتريث في الحكم عليها التخلف وانحطاط الثقافة. المسألة علميا غير محسومة بعد.
بالنسبة لنا في الادب، استطيع القول بان المجد الادبي وامتيازات الابداع "الرسمي" ، أصبحت فيما بعد الحداثة محصورة في حقول الدرس الادبي وما أسميه بـ ارستقراطية الادب. وصار "ادب الشعب" كتاباتٍ مختلطة عن الحرمان وما يصدر عنه ومن الجنس والجريمة والاستياءات العامة والازمات النفسية وانكسارات الحلم وما يصدر عنه. هذا ليس في الكتابة حسب ولكنا نشهده أيضاً في الاحتفالات والمهرجانات او المؤتمرات الرسمية. إذ نشهد القاعات محتشدة بالمتأدبين أو هواة الأدب والثقافة الاعتياديين لا المتخصصين المهتمين بالنتاج الادبي او الدراسات الادبية. صرنا نسمع قصائد الهجاء الاجتماعي بلغة فقيرة وصيحات الاستياء المباشرة والساذجة والنكات والطرائف لا القصائد الجليلة في بنائها الفني وافكارها الموحية متعددة المستوى رمزاً ودلالة. ما عادت القاعة تصغي لقصيدة مثل "الرجال الجوف" أو "ضيقة هي المراكب". القاعة اعتيادية وللاعتيادي! في الموسيقى أيضاً نجد المئات يتزاحمون على "مطرب" هو مغن عاطفي لا فن حقيقياً وراءه ولا ثقافة. وراءه غزل بسيط ورغاء أو أنين جنسي. اننا الان نخجل من المقارنة بين عدد الحضور لحفل سمفوني وعدد الحضور لواحد من المغنين العرب موسيقى اغانيه خليط، يشغل القاعة بالاستعراضات هابطة المستوى والاستعانة بما يعوض او ما يشبه الجواري..
بعد الاقرار بهذا الواقع وهذه الظواهر او التحولات، ما الذي نستطيع فعله؟ لا نستطيع اعادة ما كان. ثم أننا لا نريد اعادته. اعادة ما كان ليس في صالح الزمن الجديد. هذا الزمن له احتياجاته والمسعى، او الامنية، هو لرفع مستوى هذه الاحتياجات ومستوى التعبير عنها. مطلوب ان تتطور هذه المستويات بأن تتنامى ثقافيا لتكتسب جمالا ورسوخا. الجماليات الجديدة بتطورها ورسوخها تصنع تقاليد.
لكن هل يمكن ان يتحقق هذا في مجتمعات استهلاكية ولانسان مستَلَب يريد ساعات عمل اضافية ليستكمل احتياجات عيشه؟ هنا يصبح سؤال الفن هو سؤال الحياة. وهذا يعني النظر باحترام لما هو موجود على الساحة وما سيوجد. الظاهرة الجديدة، حتى النيّئة، وغير المرموقة، هي في جانب منها تشير الى تحولات في المجتمع والثقافة الشعبية وعلينا النظر اليها باحترام وتفسيرها تفسيراً علمياً. في الادب مثلا، للحياة الاقتصادية دور في تحول عمليات التلقي. الاحتياجات عناصر شديدة الفعل في نوع التلقي وطبيعته. خسارتنا، او ما يبدو لنا خسارة، لامتيازات ادب النخبة من بلاغات وايقاعات وجماليات تعبيرية، وراءها ابتعاد ثقافة الناس عنها وانشغالهم بثقافة العيش اليومي والتلقي السريع المباشر. وبهذا الفهم أيضاً يمكن مناقشة شيوع قصيدة النثر وعدم رقيها حتى الان للاكاديمية المتخصصة. هي ما تزال ضمن التجمعات الادبية الخاصة، الشابة غالباً. ولا يبدو لي انها ستحقق مجداً منتظراً. فبعد تخلي إليوت عنها بعد كتابته لقصيدة "هستيريا" وتراسله مع ازرافاوند وقرار الاثنين بالكف عن كتابتها وبعد تململ بعض الاساطين الجدد ممن كتبوها وحدود التقبل العام لها، صار عليها أما ان تشق لها طريقا جديداً لا يفارقه الفن والثقافة الراسخة وأما ان تظل مرحلة من مراحل تطور النثر العربي عندنا ومحاولة من محاولات ابداعية كثيرة عندهم.
لا اظن الثقافة الادبية والدراسة اللغوية كافيتين لتفسير الظاهرة وتحديد مستقبلها. وما أقوله هو استبصار شخصي قابل للنقض. الدراسات الاجتماعية رديف ضروري للتفسير العلمي. وما ينطبق على الفن الشعري او الكتابة الأدبية هو نفسه يقال عن بقية الفنون. الحماسات وحدها لا توصلنا الى رؤية سليمة. لابد من تفسير علمي للظواهر كلها متكاملة. ولابد من احترام الظاهرة قبل نفيها. ايضا، واجبٌ تركُ حيّزٍ محايد لما ستصير إليه في المستقبل، فقد يكون للمستقبل رأي آخر...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram