TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > سعة أفق الفن

سعة أفق الفن

نشر في: 9 أغسطس, 2015: 09:01 م

حين قذَف الشابُ العراقي حذاءه على شخص الرئيس الأمريكي بوش، وكان ضيفاً في بغداد، نامت الكرامةُ العربية قريرةَ العين ذلك اليوم، فقد كانت الإهانة للعدو أبلغ من أن توصف. ألمْ يُقذف بحذاء؟! ولكن المخيّب للظن أن الحذاءَ خارج العالم العربي والإسلامي لا يرمز لانحطاط ولا يشكل شتيمة. وهو كالكلب رائق للعين وعزيز على القلب. والمسؤول لديهم عادة ما يُرشق بالبيض والنفاية والأصباغ، أما الحذاء فيصلح لمعرض فني.
حين جئت لندن مطلع 1979 كان الحذاء مادةَ أول معرض فني أشاهده فيها. ولا أخفي عنكم دهشتي آنذاك، لا لأني كنت مع من يعتقد بحِطّة الحذاء، ولكن من أن يكون معيارَ جمال فني بالغ التنوع والغنى. وبعد قرابة ثلث قرن يعود الحذاءُ اليوم إلى الصدارة في معرض فني كبير، في متحف "فكتوريا وألبيرت"، تحت عنوان "أحذية: مسرّة وألم". وقد وفّر المتحف عيناتٍ تتجاوز 250 زوجاً من الأحذية عبر التاريخ. ولم تُخفِ مرحلةٌ من هذا التاريخ مسرتها وهوسها بهذه الصنعة التي تتمتع بالقيمة العملية والجمالية في آن.
حذاءُ المرأة يكاد يتفرد، مقارنةً بحذاء الرجل، بسعة أفق التفنن الجمالي. حتى ليُغضّ الطرف عن الطواعية العملية، بحيث يبدو الحذاء في أحيان كثيرة لا يصلح للقدم الرقيقة. هناك رقة وبساطة، تتصاعد إلى أشكال بالغة التعقيد، لا في الجمال أو الأناقة، بل في إثارة الرغائب الحسية. في الأسطورة يبدأ المشاهد مع حذاء "سِندريللا"، وفي شهرة النجوم مع مارلين مونرو، والملكة فيكتوريا، وعدد من الممثلات والمغنيات المجهولات لدي، وراقصات الباليه.
على أني لمْ أُبطئ الخطو على عهدي مع معارض الفن التشكيلي، ولذا أسرعت الخطى عن غير دراية لأشاهد معرضاً تشكيلياً موسعاً إلى الجوار.
في "غاليري البورتريت الوطني" معرض استعادي لفن أكثر حميمية وهو فن "البورتريت"، ولفنان أكثر إيحاءً هو "جون سارجِنت" John Sargent (1856 ـــ 1925). وسارجِنت الأمريكي كان لعائلة كثيرة التنقل في أوربا. ولقد رعته أمه باتجاه الرسم الذي تُحسنه. تعلم في إبطاليا، فرنسا وبريطانيا وأمريكا التي عاد إليها أخيراً. كان انطباعياً في لوحاته لمشاهد الطبيعة، ولكنه توفّر على شخصية فنية متميزة حين اقترب من فن "البورتريت". وسعة اهتمامه الثقافي قربته من أوساط الكتاب والموسيقيين، والوجوه التي رسمها للروائي "هنري جيمس"، و"روبرت لويس ستيفنسون"، والفنان "مونيه" والنحات "رودان"، والموسيقي الفرنسي "فوريه" أكثر من مألوفة لديّ. ولكن مشاهدتَها حيةً أطلعتني على عمق النبش الذي يطمع سارجنت في الذهاب إليه، لفهم عالم الانسان الداخلي، في مرحلته الفيكتورية المضطربة بفعل الشكوك التي بعثتها هيمنة الاقتصاد الرأسمالي، ونظرية داروِن، وكشوفات علم النفس.
في اللوحتين الرائعتين اللتين رسمهما للروائي ستيفنسون: تبدو زوجته في الأولى مستريحةً في ركن مُبعد، ترفل بالحرير، على أثر الغنى الذي تمتعت به العائلة بعد نجاح روايته "جزيرة الكنز"، في حين يبدو هو في وسط اللوحة شاردَ الذهن، ووراءه باب مُشرع على ممر كئيب، يكاد يعكس الجانب المعتم من مخيلته، وهو صاحب الرواية الشهيرة "د. جيكل والسيد هايد"، التي أصدرها فيما بعد.
حافظ "سارجِنت" في المرحلة الانطباعية، وفي مرحلة بيكاسو التكعيبي، على نزوعه الواقعي. الأمر الذي عرّضه إلى مواقف نقدية معادية. ولا شك أن ميله لرسم البورتريت، ومهارته فيه، قد أسهم في هذا التعريض. فالمرحلة فوّارة بتنوع الموضة المتسارعة، وفوارة بجاهزيتها للشجب والإدانة، لكل موهبة لا تسارع كما تسارع. ولكن تاريخ الذائقة الفنية كفيل بإعادة التوازن كل حين، فسرعان ما أرجع لسارجنت مكانته التي تليق به، منذ الخمسينات والستينات.
إنني أعشق فن البورتريت، وأعتقد أن إضعاف قيمته من قبل التيارات الفنية الطليعية عادة ما يُخفي ذعراً من قيم فنية عدة: منها ما يتعلق بالمهارة الفنية، ومنها ما يتعلق بالسعي إلى ما وراء تقنيات الشكل، ومحاولة فهم الجوهر الإنساني الكامن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram