TOP

جريدة المدى > عام > مترجمون (3)..فتحي العشري.. وترجمة "انفعالات" ناتالي ساروت

مترجمون (3)..فتحي العشري.. وترجمة "انفعالات" ناتالي ساروت

نشر في: 11 أغسطس, 2015: 12:01 ص

( 1 )وأنا في خضم كتابة سسلسة مقالات قصيرة عن بعض المترجمين، كتبت ونشرت منها مقالين عن مترجمين متميزين هما جبرا إبراهيم جبرا والدكتور محمد درويش، تذكرت أنني قرأت مرة مقالاً تحت عنوان "إشكالية نشأة القصة القصيرة جداً، والترجمة إلى العربية"، عن ترجمة فت

( 1 )
وأنا في خضم كتابة سسلسة مقالات قصيرة عن بعض المترجمين، كتبت ونشرت منها مقالين عن مترجمين متميزين هما جبرا إبراهيم جبرا والدكتور محمد درويش، تذكرت أنني قرأت مرة مقالاً تحت عنوان "إشكالية نشأة القصة القصيرة جداً، والترجمة إلى العربية"، عن ترجمة فتحي العشري لكتاب ناتالي ساروت الشهير "انفعالات"*، أو بالأحرى عن المترجم نفسه، وكان قد أثار فيَ حينها شجوناً وربما ألماً. لماذا؟ هذا ما أحاول بيانه. ولكن قبلاً أود أن أتوقف عند نقطتين، الأولى تتعلق بالمترجم، والثانية بما صار معروفاً من ربط (انفعالات) بها، نعني القصة القصيرة جداً.
فتعلّقاً بالمترجم، إن لفتحي العشري مسيرة وإنجازات ترجمية أكبر من أن تجعلنا نشكك في مقدرته وحِرَفيته، وفي النتيجة في ترجمته لكتاب (انعالات)، حتى مع كل ما قد يختلف معه فيه البعض، فيكفي أن نذكر من ترجماته: "الجحيم" لهنري باربوس، و"إيزابيل" لإندريه جيد، و"صحراء الحب" لفرانسوا مورياك وبالطبع "انفعالات" ناتالي ساروت. أما تعلقاً بالقصة القصيرة جداً، فربما أكون أول من قدّم عربياً دراسة علمية أكاديمية محكّمة عن (القصة القصيرة جداً) حين قدمتها في ورقة بحثية في مؤتمر النقد الأدبي الخامس لجامعة اليرموك الأردنية، وتحديداً عام 1994، ونشرتُها بعد ذلك في كتابي (في الأدب المقارن.. مقدمات للتطبيق) عام 2001. في تلك الدراسة عرّجت بالطبع على كتاب ساروت وناقشت علاقته ومؤلفتها، ولا أقول موقعهما، بمسيرة القصية القصيرة جداً، الأمر الذي يجعلني أعود إلى بعضها وأنا أواجه (انفعالات) ساروت.

( 2 )
والآن، لماذا أقول أثارت مقالة "إشكالية نشأة القصة القصيرة جداً" فيَ شجوناً وربما ألماً؟ ببساطة لأن الكاتب بدا لي، وبشكل واضح جداً، متحاملاً على فتحي العشري المترجم القدير وصاحب الأعمال الترجمية العديدة، كما رأينا، لعل واحداً من أهمها هو ترجمته لعمل ساروت (انفعالات)، والأجمل عندي مقدمته التي حاول كاتب المقال أن يسفّهها بدون مبرر أو وجه حق، علماً بأنني لم أتفق مع العشري نفسه في بعض ما ذهب إليه في مقدمته ذاتها، ولكن أن لا نتفق شيء وأن نتجنى ونتحامل عليه شيء آخر. فبعكس ما جاء في ذلك المقال، جاءت مقدمة المترجم فتحي العشري للكتاب، كما أشرت، واحدة من أجمل المقدمات ومن أكثرها حرصاً من صاحبها على الدقة، وهناك الكثير مما يثبت هذه الدقة مقابل عدم دقة المقال في مناقشتها، كما سنأتي إلى هذا فيما سيأتي من نقاط نغطي جهد الإمكان جوانب الموضوع.
فبدءاً بالعنوان وتسمية (انفعالات) Tropesmes، بيّن المترجم، بوعي واضح، أنه لعدم وجود كلمة مقابلة تماماً لهذه المفردة الفرنسية بالعربية، ما كان أمامه إلا أن يجتهد، وهو ما يناسب تماماً مع ما يجب أن يفعله أي مترجم، على أن لا يبتعد عن لغة الأصل في دلالتها ولا يخرج عن اللغة المنقول إليها فيبقى ضمن طبيعتها. وهكذا اجتهد، ولماذا لا يجتهد، في ترجمة هذه المفردة إلى (انفعالات)؟ وهنا لا نقرر بحسم، كما يجب أن لا يقرر أحدٌ ما إذا كان العشري مصيباً، ولكننا لا نقرر أيضاً، كما لا يجب أنْ لا يقرر أحدٌ ما إذا كان مخطئاً، لأن هذا الفعلر إنْ هو إلا وجهة نظر، ولكنها مبنية بالطبع على أسس ومفاهيم وخبرات ترجمية ولغوية وأدبية. ومن هنا حين يأتي شخص مثل نهاد التكرلي، وهو المثقف والناقد والمترجم الحجة بالطبع، ليكون له رأي آخر وترجمة أخرى للعنوان بـ(انتحاءات)، فإن ما قلناه عن رأي العشري ينطبق عليه أيضاً ولا يمكن في كل الأحوال أن يكون رأي العشري خطأ بالضرورة؟ فإذا ما رأينا صحة (انتحاءات) فإننا لا يمكن نعتبر الأخرى خطأ بالضرورة. والعكس صحيح هنا، فمع أننا مقتنعون بترجمة العشري أكثر منا بترجمة نهاد التكرلي، فإننا لا يمكن أن نذهب في تقييم التكرلي بالشكل الذي قيم فيه كاتب المقال المشار إليه العشري حين مال إلى التكرلي فقال:
"كما أن الترجمة الخطأ لـ(انتحاءات) بـ(انفعالات) تبيّن البون الثقافي والمعرفي الواسع بين المترجم فتحي العشري والنص الذي أقدم على ترجمته، حيث انفعالات تعني الحالة النفسيه في علم النفس، بينما (انتحاءات) تعني (حركات لا يمكن تعريفها تنسل بسرعة إلى حدود وعينا وهي مسؤولة عن أفعالنا وكلماتنا وأحاسيسنا)".

( 3 )
في الانتقال إلى تجنيس هذه الكتابات التي ستُحسب على ما ستُسمّى (القصة القصيرة جداً)، من المفيد أن نعرف أن العشري، وانطلاقاً من الدقة التي طالما تميّز بها، تجنب أن يحسم أمرها، فقال نصّاً الآتي:
"أما (الانفعالات) فيمكن إدراجها تحت بعض أنواع الخلق الأدبي المعروفة، كالقصة والشعر الحر.. ولا يمكن في الوقت نفسه إدراجها تحت أي نوع من أنواع الخلق الأدبي المعروفة وغير المعروفة، حتى أن العنوان نفسه (انفعالات) كلمة لا توجد لها ترجمة في غير اللغات غير اللاتينية ولا يوجد لها تفسير في أي من هذه اللغات".
ولا أجد أكثر من هكذا موقف وتعبير وقرار دقّةً وحرصاً على الأمانة والعلمية، علماً بأنه قد شاع بعد ذلك ربط هذه الكتابات بالـ(القصة القصيرة جداً) فعلاً. صحيح أن من التسميات لهذا الشكل القصصي بالإنكليزية (قصة الومضة) و(قصة الصدمة)، مما قد يرى البعض أنها مناسبة، ولكن تبقى التسمية الأفضل برأينا التي ربما هي أشيع في المعجم النقدي الإنكليزي والأقرب إلى التسمية العربية، هي (القصة القصيرة القصيرة) short story story، خصوصاً وأن همنغوي سبق له أن وضع لإحدى قصصه، وفي وقت مبكر جداً، وتحديداً في العشرينيات من القرن العشرين، عنوان (قصة قصيرة جداً) A Very Short Story. وكل هذا ونحن لا ندّعي، كما قلنا، أن ما نذهب إليه إنما هو الصحيح، وأن ما فعله العشري هو الصحيح وغيره خطأ، بل أن لما فعله مبرراً ومسوّغاً فنيّاً واصطلاحياً ولغوياً، وفي النتيجة قدرة على الإقناع.
مرة أخرى، إن عدم وجود مقابل لكلمة Tropesmes الفرنسية في العربية قادت العشري للاجتهاد في ترجمة المفردة/ العنوان، وتبعاً لذلك في تناول ما جاءت عنواناً له، نعني هذه الكتابات غير العادية وغير المألوفة، فكان منه ما كان، مما يحتمل الصحة والدقة، كما نراه نحن، وافتقاد بعض الصحة وبعض الدقة، كما قد يرى آخرون ليقترحوا كلمة بديلة مثل (انتحاءات)، وهي عندنا في عدم الاتفاق عليها ومن القبح، حتى وإن جاءت من كاتب كبير مثل نهاد التكرلي، بحيث يصعب أن يرضى بها شخص مثل كاتب كبير آخر مثل فتحي العشري ليضعها عنواناً للمجموعة.

* انفعالات، قصص قصيرة جداً، للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت، ترجمة وتقديم فتحي العشري، راجع الترجمة إيليا حكيم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram