سأكذب على القارئ لو قلت: إنني أستحضر أرنستو تشي غيفارا، رمزاً وموقفاً، اليوم، بلا مناسبة.
المناسبة هي ما أدركه هذا الثوري الأرجنتيني الشاب من سطوة الحزن التي تؤطر العالم، في زمنه البوليفي، حيث صار الحزن هوية وطقساً، بل دكتاتور العواطف جمعاء.
هل ثمة مناسبة، مناسِبة، أكثر من هذا الحزن الذي يصرخ في عيون أطفال العالم المنهوب، الجائع، المهجر، المختطف، ومنه عالمنا العربي؟
لا أدري لماذا حسبت تلك الطفلة الإيزيدية، وكانت فائقة الجمال رغم الدخان والغبار والرعب في وجهها، أنها ابنة غيفارا في لحظة يُتم ساحق.
أتوقع بعض التعليقات من بعض المعلقين، وبينهم أصدقاء لي، أو أعدقاء، ممن يأنفون من الآيديولوجيا والحزب الشيوعي وضفافهما: صديقنا الشاعر عاد شيوعياً.
ما الضير لو عدت شيوعياً؟
أو ليس أغلبية من يأنفون، أو يفزعون، من الآيديولوجيا والحزب الشيوعي ينادون بالحرية الفردية، المثقف الحر، المستقل، حق المرء في اعتناق ما يشاء من الأفكار؟
كنت واحداً من آلاف الشبان، عبر العالم، الذين اتخذوا من غيفارا أيقونة لعصر الفقراء والمهمشين والغرباء والعشاق. وفي العراق كنت واحدا من آلاف الشبان العراقيين الذين كانوا يروجون أشرطة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ويستمعون إلى أغنيتهما: غيفارا مات.. غيفارا مات/ آخر خبر في الراديوهات/ وفي الكنايس والجوامع/ وفي الحواري والشوارع وع القهاوي وع البارات/ غيفارا مات.. غيفارا مات.
طرحت على نفسي وقتها سؤالاً فنياً وليس سياسياً:
ما دلالة أن يضع الشاعر المصري الشهير فضاء العزاء في الراديوهات والكنايس والجوامع والحواري والشوارع والقهاوي والبارات؟وأجبت شاباً: إنها أمكنة الناس الفقراء.
هذا افتراض أول.الافتراض الثاني: كنت شيوعياً غيفارياً، عندما التقطت لحظتي الشخصية التي سنحت إذ اعتمد الحزب الشيوعي العراقي أسلوب الكفاح المسلح في كردستان، فالتحقت بمعسكر تدريب الأنصار الشيوعيين، بيروت 1981، معتمراً بيرية تشبه بيرية غيفارا، لكن بيريتي تتدلى منها نجمة حمراء في قلبها منجل ومطرقة.أنا اليوم شيوعي متقاعد.
أعرف أن الناس يتقاعدون من الوظيفة والعمل والحزب، لكن من قال إنهم يتقاعدون عن الحلم؟
بعد سنوات مديدة من فلترة الفكرة النبيلة لم أعد سياسياً أو عضواً في تنظيم سياسي، لأن السياسة صارت، عندي، موقفا أخلاقيا يتبدى في ما أدعيه خلال الكتابة وما أزعمه في أسلوب حياتي، وإن جاء ذلك عبر لغة فنية أو شعرية: محاولة لإعادة صياغة العالم جمالياً.وهذا افتراض ثالث.
ترسب من وعيي في لاوعيي الكثير: ما زلت غيفارياً وفق أسلوبي الخاص.وسط سعادة التكنولوجيا وفرح العولمة بنفسها وظفر العالم الجديد في حروبه مع العالم العتيق، لم تزل هوية العالم ولغته، كما قال غيفارا، يوماً، هما الحزن.
ثمة جيل يتشكل في العراق يشبهني أو أشبهه: خليط من الحلم والوهم والجرأة والعنفوان (رغم تقاعدي) أو يشبه شبابي، ثائراً ومتمرداً، يفتقر إلى قدر كبير من المعرفة لأنه جيل عملي، لا معرفي، يطلب العدالة ويدين الفاسدين من ذوي الجلود الغليظة الذين لا يأبهون لألم الناس.. يرى صراع الطبقات في مصباح مطفأ أو مبردة لا تدور في صيف العراق اللهاب.
يوم الثلاثاء المصادف العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1967 وزعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في جميع أنحاء العالم صورة فوتوغرافية لغيفارا مسجى على كتلة من الإسمنت في إسطبل قرية نائية ، لكن رسالة الوكالة الأمريكية الكريهة لم تحقق هدفها في تحطيم الأسطورة بل عززت أسطوريتها، ولم يزل الكثير من الشبان، عبر العالم، يرتدون تيشيرتات تحمل صورة الأسطورة بفخر وتباهٍ.. يعني غيفارا حي.
في ذلك اليوم، من عام 1967، كنت أبحث عمن يصلني بـ"القيادة المركزية" الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي، رغم صغر سني: 17 عاما.. وهذا افتراض أخير.
غيفارا مات.. غيفارا حي!
[post-views]
نشر في: 10 أغسطس, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
سعيد فرحان
الاستاذ عواد ناصر امريكا كانت ولا زالت هي من يضع المقاييس حسب ما تقتضيه مصالحها ومصالح الغرب او لنقل العالم الرأسمالي وطبقت مقاييسها على ثوار ذلك الزمان ومنهم جيفارا الذي لم يمت وكان حينها يقاتل الحكومات في احراش كوبا وغابات بوليفيا ولو لم يقتل لقاتل في