TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عن النفي الداخلي ومحنة الكتّاب

عن النفي الداخلي ومحنة الكتّاب

نشر في: 11 أغسطس, 2015: 09:01 م

من الملفت للنظر أن معظم الكتّاب المعُترف بهم، المُحتفى بهم عالمياً، كانوا مرفوضين ومحاربين في أوطانهم الأصلية: لم يُرفض البرتغالي، مؤسس الحداثة البرتغالية في الشعر، وصاحب الأنوات المنقسمة فرناندو بيسوا في مكان آخر مثلما رُفض في عاصمة بلاده، لشبونة. لم يُستغب الأسباني ومؤسس المسرح الشعري الحديث في أسبانيا، الشاعر الذي منح للغجر صوتاً، فديريكو لوركا في بلاد أخرى أكثر مما أُستغيب في بلاده إسبانيا، في نهاية الأمر قتلوه، بل الحرب الأهلية الأسبانية بدأت بجريمة قتله في غرناطة، حتى اليوم لا يُعرف القبر الذي أخفوا جثمانه فيه؛ لم تُشنع كتابات الايرلندي جيمس جويس، مثلما شُنعت في مدينته دبلن التي كان يمقتها حتى العظم، واليوم؟ يحتفون كل عام في الأسبوع الثاني من يونيو/حزيران بيوم "بلوم" وبطلته "الخليعة"، مولي، حتى أصبح يوماً قومياً، يطوف الايرلنديون فيه حانات دبلن يزورون كل الأماكن التي مرّ بها؛ وليست أقل من ذلك اللعنة التي حلت على روايات وقصص الإنكليزي دي. أج. لورنس في بريطانيا الملكية المحافظة، قالوا عنه أنه خليع! قائمة المغنين الذين لم يطربوا أحياءهم في الحقيقة طويلة. لا أقول ذلك عزاء أو رداً على الشتامين والإيديولوجيين في كل مكان، مهما كانت هويتهم ولون جلدهم، مهما كانت ديانتهم، أو مهما كان المرض الذي يعانون منه، والذي أغلب الأحيان هو مرض الدونية الذي يسحقهم يومياً، لأن هؤلاء في النهاية هم ناس فاشلون، حاقدون وعاطلون عن الأدب، يرددون مقولات "نقدية" مثل الببغاوات لا يفقهون منها شيئاً، بل أن ما أريد قوله أن ليس المهم للكاتب التفكير بـ "داخل" و"خارج"، إنما الأكثر أهمية هو التفكير بشرط الإبداع. ففي النهاية أن المبدع منفي حتى وهو في بلاده، وأن الكتّاب المنفيين الذين يكتبون بالعربية خصوصاً العراقيين بإمكانهم تقديم "أوطانهـم" من خلال إنجازهم الإبداعي، خاصة وإن الكتابة بحرية أصبحت في البلدان الناطقة بالعربية وبلدان الشرق الأوسط عموماً، يمكن أن تكلف المبدع حياته، منذ صدور الفتوى ضد سلمان رشدي، ومنذ طعن صاحب النوبل نجيب محفوظ في رقبته بسكين، كانت عمياء لحسن الحظ،، وإلى تهديد التركي أورهان باموك بالموت، والقائمة لا تنتهي، أما في العراق فبعد ديكتاتورية البعث أصبحت مافيات الطوائف والعنصرية هي التي تحرك بوصلة إتجاه الكاتب، بل قادت إلى صمت العديد من الكتاب الشباب الذين بدأوا بكتابات رواية أو روايتين بعد 9 نيسان 2003 ليصمتوا الآن لأسباب مختلفة، إذا لم تكن لأسباب انتهازية أو ارتزاقية. فبالتالي تظل أجمل الأوطان ليست تلك التي تفرضها أيديولوجيا سلطة ما، إنما هي تلك التي نجدها في كل رواية أو قصيدة أو لوحة جميلة. وهذا ينطبق على الإبداع في أي مكان وزمان.
وذلك ما عرفه الغجر، فهم منذ سرقتهم للمسامير التي أريد صلب المسيح بها، منذ ذلك اليوم وهم مطارَدون، يدفعون ثمن احتفاظهم بالمسامير التي لن يعطوها لأحد، يرحلون من مكان إلى آخر. ذات مرة سألت ـ في ندوة في بوخارست ـ رئيس المجلس العالمي للغجر السؤال التالي: " كل الأقليات عندما تتحدث عن حقوقها تصبو للانتماء لقومية كبيرة تتحدث لغتها في بلد مجاور، إلى ماذا يصبو الغجر؟"، نظر إلي، ابتسم، وضرب برقة على القلب: "نحن ننتمي لهذا الوطن". جواب لا يخلو من الرومانسية لكن هذا ليس بغريب لأن لا وطن ولا منفى لكلمتي "وطن" و"منفى" في لغة الغجر. ربما تُشكل هذه الرؤيا أحد مصادر الإبداع، وربما تتزود منها شرايين دم الكتابة، أليس كذلك؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناديل: يكتب كي لا يموت العالَم

 لطفية الدليمي في حياة كلّ كاتب صامت، لا يجيدُ أفانين الضجيج الصاخب، ثمّة تلك اللحظة المتفجّرة والمصطخبة بالأفكار التي يسعى لتدوينها. الكتابة مقاومة للعدم، وهي نوع من العصيان الهادئ على قسوة العالم، وعلى...
لطفية الدليمي

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram