TOP

جريدة المدى > عام > أنعام كجة جي.. الحفيدة الأميركية تصف نفسها..أخرس يمضي من ليس له وطن

أنعام كجة جي.. الحفيدة الأميركية تصف نفسها..أخرس يمضي من ليس له وطن

نشر في: 15 أغسطس, 2015: 12:01 ص

الصدفة وحدها جعلتني اقرأ رواية " طشاري " قبل "الحفيدة الأمريكية" ومع ملاحظتي المركزية حول البناء السردي ، وتباين الموضوع ، وتعدد الشخوص واتساع الزمن في الوحدات السردية الرئيسة ، وجدت بأن أنعام كجة جي منغمسة بالذاكرة وابتكار آليات استعادتها بما ينسجم

الصدفة وحدها جعلتني اقرأ رواية " طشاري " قبل "الحفيدة الأمريكية" ومع ملاحظتي المركزية حول البناء السردي ، وتباين الموضوع ، وتعدد الشخوص واتساع الزمن في الوحدات السردية الرئيسة ، وجدت بأن أنعام كجة جي منغمسة بالذاكرة وابتكار آليات استعادتها بما ينسجم مع البؤرة السردية في عملها الروائي . ويبدو لي بأن الحفيدة الأمريكية ، أضاءت مجالاً عاماً وفاعلاً في تصورات الروائية وهي العلاقة مع الذاكرة والتاريخ والتنويع عليهما . واتضح بأن "الحفيدة الأمريكية"، أكثـر تمركزاً حول ذلك ، بحيث اشتغلت الرواية على الجدة "رحمة" ، دالة على عمق الذاكرة وصفاء التاريخ والحفر وراء موتيفات بسيطة ، لكنها تومئ لما هو جوهري ، واعني العلاقة مع المكان واستحضار سرديات مسموعة / منقولة عن أهلها ، جعلت منها شابة منتمية لمكانها ، الذي أنتج تاريخاً مجيداً من التنوع والتعايش والتجاوز مع هويات عديدة .

 

 

وبرز دور الروائية واضحاً في التأكيد على حيوية الجدة رحمة ، بياض الطائفة المسيحية ، ونقاوة العقل ، وشفافية الروح ، في التعامل مع وطن اسمه العراق . وكيف استطاعت هذه العجوز من صياغة مرويات خلقت تعايشاً مع المسلمين وقتال ذلك رضاعة الطاووس للطفلة " زين " بعد إصابة والدتها بالتفوئيد . هذا نوع رفيع إنسانيا في ابتكار المرويات وتجديدها ، وفعلاً ظلت حاضرة طويلاً ، وتمظهر هذا بالعلاقة بين " زين " وحيدر / ومنتهى . التشاكل الثقافي والديني وتنوع التبادلات بين المجالين المختلفين دينياً .
اكتشفت " زين " الغريب والعجيب من مرويات جدتها " رحمة " والتركيز عليها ملمح بنائي قصدي ، مهم وجوهري ، لانه جعل من مرويات رحمة مجالاً فاعلاً ومركزياً ضمن مساحة السرد الموزعة بين قطبي الوطن / الاحتلال . تمركز الوطن / الذاكرة / المرويات كثيراً بعد لقاء الجدة بحفيدتها الأمريكية في تكريت ، ومن هناك ، ظلت حكايات الجدة متنامية لتتسيّد فضاء السرد ، وتحولت مركزاً للصراع .
المثير للدهشة والانتباه ، هو دقة أنعام وقصديتها في إشاعة الطاقة الشعرية في سردها لمرويات مضت وظلت مهيمنة بذاكرة " زين ، زينة ، زنوبة / استعادتها اعترافا بالتشكيلات الثقافية المبكرة ، التي كانت الطفولة ومردداتها ابرز تلك المرويات . وقد احتلت هذه مكاناً هو الاستهلال في الرواية ، إذا شطبنا الفصل الأول الذي ختمت به الرواية ، وجعلته استهلالا ، مانحة هذه التجربة ميزة أن تكون البداية ، هي نهاية العمل الروائي .
الطفولة حضور شعري ، بالغ الدلالة والتأثير ، وخصوصاً في لحظات استعادة الموروثات الغنائية الشعبية ، وحكايات القائلة الخاصة بعلاقة الأب والأم مع أطفالهما ، وما الذي فعله الأب وما الذي أرادته الأم من أطفالها ، صراع ثقافي / ديني خفي ، لكن مرونة الأب وهيبته وصفته العامة كمذيع ، جعلته أكثر تأثيراً في الأطفال الذين تعلموا واتقنوا اللغة العربية .
استعادة المرويات الموروثة ودور الجدة في تنمية ذاكرة " زين " تعبير واضح عن قوة الماضي واستحالة تفكيك عناصره الثقافية المكينة ، لذا ابتدأت " ديل ... ديل ... ديلاني / بعشيقة وباحزاني / راح باباع الضيعة اشترى كشمش وقضامي / أكلتها الدامي / طلع زوجها حرامي ص12//
الموروث الشعبي العميق ممتد بين الأجيال ، حتى بعد حصول تحولات مجتمعية ثقافياً وسياسياً . لان الطفولة عتبة مثيرة ومغرية ، ومحفزة على الاحتفاظ بها كمكونات ثقافية مبكرة ، تظل حية يتداولها الجميع وتصير مركزاً متفقاً عليه ولا يمكن مغادرته ، فهذه المرويات التي استعادتها " زين " نافذة واسعة للعودة للوطن ، عبر طفولتها المبكرة ، وهذه ـ المرويات ـ قادت السرد والتحولات فيه ، وعمقت الصراع الذي فجرته الجدة رحمة ـ صوت الماضي / التاريخ / العميق ، المشرب بتفاصيل حضارية ، من هنا تميز السرد بالاستعادة الشفافة والنابضة بالحنين والوجع ( تهزني جدتي رحمة جيئة وذهاباً بعد أن تجلسني بمواجهتها في حضنها الدافئ . صدري الهش الصغير يقابل نهديها المترعين بالعافية ، يطفحان من صدريتها القطنية البيضاء / ص12
استعادة صور الماضي ، بعيد الغور ، تبدّى عبر حوارات طويلة ، ارادتها الروائية ، تعبيراً عن حضور التاريخ باعتباره سرديات حرة ، لا مفاضلة بينها ، بل جميعها كاشفة عن مرآة العائلة وتنويعها المثير .
سرديات العائلة / تاريخها المضيء / المشرق الذي تم نخله من بين سرديات غفيرة وظلت الحكايات الممجدة للعائلة . ليس هذا فقط ، بل لوضع الحفيدة الامريكية امام قوة التقاليد الموروثة والآتية من عمق المسيحية أو روح الأشورية . ولان أنعام كجة جي ، فنانه مرهفة ، ذهبت نحو حشد علاماتي ، لترسم عبره عن صراع خفي ودفين ، بين الحاضر والماضي ، ولم تكن الجدة رحمة مغالية بل موضوعية عند استحضارها للتاريخ ، ظلت قيمه تستعاد سردياً .
" هل نسيت يا زينة ؟ اليوم ستة كانون الثاني ... عيد الجيش . فهمت ما كانت تؤديه من طقوس . الم يواصل جدي يوسف الاحتفال بهذا العيد ، على طريقته ، بعد أن طردوه من الجيش / ص90/ ظلت الحفيدة الأمريكية منشطرة بين أصولها وما اكتسبته من أميركا ، واحتدم الصراع الداخلي قوياً وعسيراً ، ولم تستطع منذ لحظة اللقاء الأول مع الجدة رحمة ، حسم الأمر واتخاذ قرار نهائي الا بعد عذاب مرير وجدل معقد . ولم تتمكن الخلاص من تراكماتها الثقافية وانشدادها لمرآة المرايا . الجدة رحمة ، وكل ما تعرفت عليه من علاقات حاضرة مع الجدة والطاووس وحيدر ، ومهيمن صاغت مرحلة ثقافية جديرة ، بقيت آثارها محفوظة ويقظة وعبرت عن ذلك بوضوح عبر إيجازها السردي الدقيق ( عدت من بغداد خرقة معصورة من خرق مسح البلاط ... خرقة كاشي ، هكذا عدت ... أمر بأنني عدت مقهورة ، مهملة بحصى الشجن / ص10//
كثيراً ما ركزت التفاصيل السردية في رواية " الحفيدة الأمريكية " على أن المراحل المهمة وحصراً التحديثية ، نجحت بإنتاج ثقافة وخصائص مهينة لم تذهب لها أنعام بشكل ثقافي مباشر ، وإنما اعتمدت مرويات / وحشداً من العلامات الحاضرة بديلاً عن اللغة ، منحتنا فرصة القراءة والتأمل وتصاعد الجدل بين الوافد / زين وبين الأصل ، الجديد يوسف كما هو ، متحرك في ذاكرة العائلة / الجدة رحمة وما استعادة البدلة العسكرية للعقيد الركن يوسف الساعور الا شفرة واضحة المعنى ومكشوفة الدلالة لما تعنيه المهنية العسكرية العراقية في مرحلة انفتاح العراق على أفكار الحداثة والتطوير ( فإذا استيقظوا ، في صباح بارد وجدوا الجد يلمع نجمات بدلته فهموا أنها ليلة عيد الجيش ومع كل تغيير في بيادق النظام ظل جدّي ينتظر هاتفاً يدعوه الى العودة للجيش / ص93//
ويعمق السرد الشفاف ثنائية العلاقة بين الحفيدة الأمريكية والجدة التي تحولت صوتاً أو ضميراً حيا للعائلة ولأصلها . وازدادت الفجوة وأدركت " زين " استحالة إرضاء الجدة ، كما اقتربت هي أكثر فأكثر منها ، واستطاعت قراءة ملامحها وفك شفرات كلامها المجازي والغوص في أعماقها ، وصار بعضها مؤثراً عليها .
ـ سحبت العجوز رأسها من فوق صدر زينة وتطلعت إليها باستهجان ـ لا تتفوهي بمثل هذا الكلام في الغرفة التي اسلم فيها جدك الروح احترمي ذكراه على الأقل .
ـ هنا مات
ـ هنا فوق هذا السرير ... كانت نعمة ربانية أن يموت قبل أن يرى الاحتلال ويراك
لم تر زينة دمعة العجوز في القمة ، لكنها شمتّ رائحتها ، شاهدت صوت جدتها شاحباً ومتهدجاً / ص115//
يبدو لي بأن أنعام كجي جي عرفت جيداً المنفى واكتشفت أسراره وقرأت عن فلسفة الأنا والآخر ، لذا تلمست أهم المراكز الثقافية والفكرية التي اشتغل عليها لينفناس المفكر الفرنسي المنشغل طويلاً بالهوية وأشكالها ، من خلال الأنا والآخر ووظفت أنعام أهم المجالات في معرفته وهو الاستبدال والذي ابتدأ بسيطاً وتنامى شيئاً فشيئاً حتى يحقق وكانت زينة ، زين ، متحولة من هويتها الثانية لتحط تماماً في مكان جدتها وتحقق الاستبدال الذي نما وتحقق عنصراً بنائياً مهماً في هذه الرواية . وهذا لم يشطب على مجال لينفاس الأول : العلاقة وجهاً لوجه التي امتدت طويلاً في الرواية الى أن هيمنت ( وضعت بدلتي الخاكية في كيس ورميتها في برميل المطبخ . لم ازرع في الخوذة ريحاناً . العطر لا يعيش في الحديد .... البيوت هناك تقصف ومقاهي الانترنيت لن تتحمل الشظايا .... لم اجلب معي هدايا ولا تذكارات . لا احتاج لما يذكرني بها .)
أقول مثل أبي : شُلت يميني اذا نسيتك يا بغداد / ص195/
كانت الجدة رحمة ( الصفة المريمية ) هي الذاكرة النابضة بمحبة المكان والفناء فيه ، ولم تغب عنه ، لان زينة وريثتها اليقظة ، والمتحولة بطريقة غير متوقفة ، عندما انجذبت بقوة الى مهيمن الأخ بالرضاعة وعشقته ، وتمنت الزواج منه حتى ولو على طريقة المتعة ، وهو احد مقاتلي جيش المهدي . هذا وجه آخر للاستبدال الحاصل بشخصية زينة / زين واعتقد بأنه بحاجة لقراءة موسعة ، لأنه يمثل أنموذجا متعدد الهويات / متنوع الأصول ، لم يستطع مقاومة المرويات التاريخية التي كان راويها شهرزاد معاصرة ، ذات تأثير كبير على شخصية الحفيدة الأمريكية . ويبدو واضحاً عبر قراءة الرواية بأن انعام كرست الموروث الثقافي والاجتماعي للجد والجدة . واختارت مساحة واسعة للجدة رحمة في اضاءة تفاصيل دقيقة كشفت لنا تاريخ عائلة مشترك ، ظل فاعلاً وحاضراً . يحقق " الاستبدال " بطيئاً وهادئاً وهيمنت الوطن والاصول المبكرة في تحولات السرد ، المحكوم بصوت الماضي الحي / الغني / تمثيلاً له عبر الجدة رحمة . الجد / العقيد الركن المتقاعد يوسف فتوحي الساعور ، له مجال سريع في السرد ومؤثر في تحديد القراءة والتلقي ، وتحديد ما أفضى إليه السرد من تحولات جوهرية واتضح هذا من خلال الحضور المتكرر للجد وبدلته العسكرية وما كشفت عنه العلامات من دلالات غنية ، حسمت الموقف الخاص بزين / زينة ، بهدوء وخطاب مرن وشفاف .
البدلة العسكرية دلالة على زمن الجماعات العسكرية المنضبطة والمندمجة مهنياً ، والملتزمة بأصول النظام . وتكرر الإشارة لها تأثير ، خصوصاً تنظيف نجومها وتلميعها وكأنه بانتظار حلم قريب ، وأيضا إنقاذ الجيش مما تراكم عليه . وارتداء زين / زينة بدلة يوسف الساعور ينطوي على قبول له ولتاريخه ، حتى العسكري ، وبذلك تماثلت معه على الرغم من تباين النوع ، اعني التماهي مع روح الجماعة العسكرية ، والحلول الثقافي فيها . وهنا تحقق الاستبدال الأخر .
ستظل حركة الهويات خاضعة لسيرورة ، وحضور الهوية الأولى متميز بوضوح تام ، بذلت أنعام كجة جي جهداً ، من خلال شذرات سردها على التلميح لذلك ، عبر مرويات قديمة / جديدة ، تمثيل للجماعات وبوصفها قرابات متخيلة ومستعارة ، اندمجت كلها ، بعد عقود وستظل ـ هذه المرويات ـ فاعلاً ثقافياً ، كشفت عنه السرديات وتحديداً التحولات في الروح الأخلاقية ، والانعطاف نحو الاختلاط المحفز والمثير جسدياً ( مسكين حبيبي الأمريكي ، لن يفلح ، مهما فعل في مجاراة ذلك العراقي السرسري الذي حاذاني ، قرب سوق الثلاثاء ، وحك الصدأ عن أنوثتي) ص/ 188/
كان تأثير الجدة مثيراً لها وهي تستمع لها : ( يعني كانت ضرورية شغلتك تلك الماسخة في هذا المكان) ص 75//
للمسموع تأثير وللمرئي دور أيضا ( أطلقت صرخة عفوية ، عندما رأت في الأفق ملوية سامراء . وتماسكت في مواجهتها /
المكان / العراق أو البيت وحديقته وذاكرته ، منح البساطة طاقة رمزية ، ونشطت العلامات ، وانفتحت أمام القراءة وحدة السرديات غير تقليدية . في البداية ختام كل شيء . والصورة هي الفاعل / الحاضر ( دمعت عيناها وأنا أمدُّ يدي لها بالثمرتين الصفراويين اللتين قطفتهما من حديقة البيت الكبير الذي أمضت شبابها فيه . أخذت النوميتين بكلتا يديها وتنشقتهما بعمق وكأنها تشمُّ مسبحة أبيها وحليب أمها وعمرها الماضي . حياة مغدورة تكورت . في ليمونتين ص/10 / كتبت الحفيدة الأمريكية وأية دخولها للعراق مع قوات الاحتلال ، ولم تسمح للكاتبة القرينة لها أن تزيّف ما عرفته ، وما الذي حصل لها ؟ فالمكان المتنوع يشف عن شعرية بالمقدار الذي استطاعت فيه الرؤية بصفاء ( ليس الألم هو البطل ، بل الإذلال ) لم يكن الوضع في الموصل أفضل ... أهذه هي المدينة التي يرن عند ذكر اسمها ... مدينة أجدادي ص150//

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram