TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > من الانبار الى الفاو

من الانبار الى الفاو

نشر في: 19 أغسطس, 2015: 09:01 م

لم يكن غريبا ما حصل في اجتماع اهل الانبار، بمعنى انه من طراز اللحظة "اللاسياسية" الراهنة، اي لحظة تخلخل القواعد القصوى. فدرجة التسقيط اللفظي والتشهير المعنوي بين كل الاطراف، بلغت من الاهانة والشيطنة، حدا يكفي لاندلاع خمسة حروب اضافية في البلاد.
اهل الانبار المجتمعين في بغداد، لم يفعلوا شيئا سوى انهم كانوا اكثر صراحة ومباشرة، في التعبير عن انهيار قواعد اللعبة، فاخذوا يتضاربون بالكراسي، كما يفعل اي لاعب حين يدرك ان المعايير تغيرت بشكل متعسف ومفاجئ، وانه خسر كل شيء. المشكلة عندنا هو اننا جميعا خاسرون، وليس لدينا لاعب يربح، باستثناء داعش القادم من خارج اللعبة، واي طرف اخر سيأتي من خارجها!
ومناخ "العراك" هذا لم يبلغ بعد درجته المأساوية، ومن حسن حظ قائمقام الفاو مثلا، ان المحتجين حملوه بايديهم وقذفوه خارج مبنى الحكومة، دون ان يمسه سوء، ثم قاموا باحتلال المبنى لبضع ساعات و"بردوا قلوبهم"! وفي الحقيقة فانا ممن يعارضون اخذ الحراك الى هذا المستوى الخطير، لكنني استرجع ما كتبته عن الفاو مكررا عبر سنوات، في زياراتي المنتظمة لميناء الصيادين الساحر والنادر، والسوق القديم، ومنظر النخل العاقر بسبب الملح. وكل هذا تسبب لاهل المنطقة بشعور بالاهمال والتجاهل فوق مستوى التحمل، ولعلهم اكثر اهل العراق صبرا، وكل من يزورهم ويقف على حالهم ستتملكه رغبة في اشعال ثورة كبيرة. ان افقر المدن الافريقية فيها محطة لتحلية مياه البحر، والفاو بكل ملياراتنا لا تملك مثلها.
وماذا بعد، والمظالم تتناسل، ولم يعد هناك وقت الا للصراخ؟ ان كل المناقشات مؤجلة، ولا تسمع الا صوت التنازلات التي لا نعلم كيف ستصبح واقعا. وقد لا نربح كثيرا من زيادة متعمدة في حجم الغضب، وتنازلات متزايدة جدا نعلم انها لن تنفذ بسهولة وبشكل صحيح.
ان غضب الجماهير كان سببا عبر التاريخ، لتحريك العديد من الاقدار المتيبسة، بشرط ان تسمح الظروف بظهور طرف ريادي ينجح في اقناع الجميع بالهدوء في لحظة ما. ليبدأ العقلاء اعمالهم. اما حين لا تتوفر ظروف كهذه، فسياتي الكثيرون "من خارج اللعبة" وسيقررون سحب الكراسي والطاولات، وحينها سنكون امام المزيد من المتملقين والكذابين ونهازي الفرص، المتاحين في كل زمان ومكان.
لكننا وبخلاف اي حقبة في التاريخ، يفترض ان لا نكون تائهين. فحتى قبل مئتي سنة لم يكن واضحا بما يكفي كيف ينبغي للشعوب ان تحصل على مصير افضل. اما اليوم فان موديلات النجاح ونماذج الازدهار متاحة امامنا. كما ان موديلات الفشل والدمار معروفة لنا. وطوال ١٢ عاما كنا نغامر ونتبنى نموذج الفشل، مرة لاننا نخاف من عودة البعث. واخرى لان ثقتنا ببعض متزعزعة. وثالثة لان الصين كانت تريد فلانا كرئيس وزراء مهما حصل.
وفي وسعنا اليوم ان نقول بان كل الاعذار السابقة تبددت. لان كل محاولات انقاذ النظام بالطرق التقليدية، فشلت. والدليل عراك الفاو والانبار وغيرهما. ولا مناص عن ان نبدأ باعتماد موديل ناجح وتغيير قواعد اللعبة بدون تدمير الطاولة. والا فان القادمين من خارج ميدان اللعب، وما اكثرهم، سيكونون حريصين على تدمير كل شيء. وهذا الاستشعار وحسب هو الذي جعل البرلمان يصوت على اصلاحات العبادي بالاجماع، واذا كنا محظوظين فان هذا الاستشعار سيتحول الى رغبة تغيير مؤثرة، شرط ان يستمر مستوى من مستويات الرقابة الجماهيرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ابو سجاد

    هذا سبب تفاؤلك يااستاذ سرمد اين اصبح اليوم هذا التفائل فيااخي لاتتفائل كثيرا بما يجري ان الشعب نعم قد قال كلمته ووقف بوجه الظلم ولكن هل يستطيع ان ينتصر اني اشك بهذا لان الشعب لم يكن مسنودا من حزب او كتلة او تيارا له ثقل في الداخل او من الخارج ربما المرج

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناديل: يكتب كي لا يموت العالَم

 لطفية الدليمي في حياة كلّ كاتب صامت، لا يجيدُ أفانين الضجيج الصاخب، ثمّة تلك اللحظة المتفجّرة والمصطخبة بالأفكار التي يسعى لتدوينها. الكتابة مقاومة للعدم، وهي نوع من العصيان الهادئ على قسوة العالم، وعلى...
لطفية الدليمي

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram