بعصبية نادرة سمعنا مسؤولا معروفا قبل فترة، وهو يتحدث عن "مارد معنوي سيخرج من القمقم ويحطم الزجاجة لحماية التجربة". ويبدو انه قصد ان كل جهود العراقيين طوال ١٢ عاما لاصلاح الحال بعد نكبات صدام حسين، كانت جهودا بنصف الطاقة. اما لو اصبحت التحديات جدية فان هناك جهدا ب"طاقة كاملة" سيخرج "كمارد معنوي" لحماية التجربة.
المسؤول كان يحلم بمارد معنوي او مادي يخرج ليحمي المسؤولين حين تتعرض التجربة للتهديد. لكن المارد الذي خرج مؤخرا في ساحات مقاتلة داعش، وفي ساحات التحرير والاحتجاج العراقية، جاء ليقوم "بادخال الرعب" في قلوب كثير من المسؤولين. ولذلك نجد ان زعامات اليمين والشمال تسارع الى التوقيع على الاصلاحات بلا نقاش تقريبا، خوفا من "المارد المعنوي" الذي "فقد بوصلته"، فالمارد وبدل ان يحمي المسؤولين، راح يخيفهم ويرعبهم، انعكست اشرعته ودارت صواريه وانقلب اسطرلابه!
وانا شخصيا كتبت عن هذا الغضب وجدواه، شرط السيطرة على الانفعالات قدر الامكان. وفي الوقت نفسه اعترضت على شيوع نوع من الرغبة بالانتقام، تعيد رغبات التشفي بالسحل والشنق والقتل، التي طغت على امواج التغيير العراقية في اخر ١٠٠ سنة.
ومن ألطف التعليقات التي وردتني على فيسبوك بخصوص اعتراضي على رغبة الجمهور بالسحل والانتقام، ما كتبه شاب على صفحتي بفيسبوك قائلا: لا علاقة لي بتفلسفك واهتمامك بالتاريخ ودروسه. اريد ان اسحل احد المسؤولين او المسؤولات كي يبرد قلبي!
وربما كنت شخصيا من المؤمنين بان الجمهور لا يستطيع الان بحكم ظروف وشروط عديدة، ان يضمن تحولا سياسيا ناضجا ومتكاملا. لكنني في الوقت نفسه مؤمن بان الاحتجاجات الاخيرة، لحظة فاصلة، قسمت العملية السياسية الى مرحلة ما قبل اب، ومرحلة ما بعد اب. ويمكنك استعارة تعبير المسؤول المعروف كي تقول، "ان العملية السياسية بعد خروج المارد، لم تعد نفسها قبل خروجه"!
وهذا التقسيم يجعلنا امام اسئلة كثيرة. منها مثلا، ما هو المطلوب من المسؤول اليوم كي يقوم بتهدئة غضب "المارد المعنوي"؟ فصاحب التعليق اعلاه يقول انه يريد ان "يبرد قلبه" بسحل احد المسؤولين. والمقصود ليس بالضرورة العملية الفيزياوية الدموية، ويمكن ان نتخيل مفاوضات بين المسؤول المعروف، والمارد الذي انعكس اسطرلابه او بوصلته او شراعه، لتخفيف المطالب من السحل الى المحاسبة. وقد لا يتمكن احد من محاسبة كل مسؤول مقصر، لكن احد طرق تهدئة المارد هو اختيار مجموعة من نماذج الفساد الصارخة التي اثرت فعلا على حياة الناس، وتقديمها الى محاسبة مهنية ومعلنة، كي يطلع الشعب على بعض حكايته الحزينة، فنحن نريد ان نفهم لنغير القواعد، وهذا يبدد رغبة الانتقام. ولا تتوقف مطالب المارد عند هذا الحد، بل المارد في العادة يحب ان يرى تغييرا يمس نوع صانعي سياساتنا الخارجية والداخلية، ليجد اشخاصا ذوي خبرة معتبرة، يشغلون مناصب هي الان في يد اشخاص من المؤكد انهم بلا خبرة.
ولان هذا النوع من تهدئة المارد المعنوي، غير ممكن حاليا، ولا ندري لماذا بالضبط، فان المسؤولين سيعرضون على المارد "اصلاحات معنوية" من قبيل ان الجيش لن يعتدي على المظاهرات! ومن قبيل وعد بفتح شوارع الخضراء. ومن قبيل خفض غير مؤكد في الامتيازات. وكل هذه الحركات المشكورة، هي دوران حول المشكلة دون الاصطدام بها.
ان الجمهور طيب القلق سريع النسيان، اذا وجد عند الطبقة السياسية ارادة تضمن المجيء بشخصيات كفوءة واستشارات اجنبية كفوءة، لمعالجة ازماتنا. وهذا كفيل بتهدئة جزء اساسي وخطير من الغضب. ولا ادري متى ستتوفر الارادة السياسية للتعامل بهذا النحو العملي مع غضب الجمهور.
ان اصطرلاب الغضب الشعبي وبوصلته، يمكن ان يتغيرا، فقد كانت الجماهير غاضبة على العبادي، ثم تحولت الى مؤيدة لرغبة الاصلاح عند الحكومة، لكن بوصلة الطبقة السياسية واصطرلابها، لا يعملان بنحو جيد. فبدل ان يقوم بعض الساسة بالبحث عن بوصلة الانقاذ، تجدهم منهمكين بقياس درجة الغضب وانتظار ان يهدأ الجمهور ليعود كل الى ممارسة عاداته القديمة، ويعود المارد لينام "ويحلم بالتجربة داخل القمقم
اسطرلاب المارد المعنوي
[post-views]
نشر في: 29 أغسطس, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ابو سجاد
يارجل انك تتحدث وكاْن امر الاصلاح بيد هؤلاء وانهم احرارا وبيدهم صنع القرار العراقي وانهم غير محكومون باجنداةخارجية تملي عليهم ومن ثم تحميهم