في لحظة انتباهة، حيث أغيب عما حولي بعيداً عن مشاهد قطيع الفساد وهو يفترس وطني، أشعر أنني مسلوب الارادة ومعطوب الأحاسيس، كل ما أتظاهر به من وازع للضمير، ورهافة إنسانية ، يتجرّد من معانيه ويفقد دلالاته أمام هول مشاهد المعابر البحرية وهي تبتلع العراقيين
في لحظة انتباهة، حيث أغيب عما حولي بعيداً عن مشاهد قطيع الفساد وهو يفترس وطني، أشعر أنني مسلوب الارادة ومعطوب الأحاسيس، كل ما أتظاهر به من وازع للضمير، ورهافة إنسانية ، يتجرّد من معانيه ويفقد دلالاته أمام هول مشاهد المعابر البحرية وهي تبتلع العراقيين وأطفالهم الرضّع ونساءهم المفجوعات وشبيبتهم الهاربين من جور وضيم وطنهم الذي استباحته حيتان الكفر بالمواطنة والانتقاص من قيمها، التي جعلت البلاد نهباً لاطماع ثُلّة من لصوص المال العام، تتلذذ بعذابات ملايين العراقيين وتستمتع برحيلهم المؤشر لتراجع اي بارقة للامل في نفوسهم وانسداد ابواب الرجاء، مهما كان مؤجلاً، لنهاية المأساة التي حوّلت كل مساحة في بلادهم الى مسرحٍ للغنائم من السحت الحرام ولاغتصاب ارادتهم، بعد أن جردتهم حتى من الامل والرجاء ..!
اكاد انا الآخر، إذ انتقل في كل لحظة من تتالي مشاهد جثث عشرات العراقيات والعراقيين ممدة على الرمال في بلاد تحتكم الى الضمير الانساني لا الادعاء بالتقوى الزائف، أن "أستقيل" من ادعاءاتي كلها واذهب الى حيث تلك المعابر لعلّي استطيع انقاذ من رمته امواج البحر الى سواحله قبل أن يغيّبه الموت، أو أنتشل جثة طفلة غاصت أمها في غياهب البحر، أو اتعرف على الاموات فأخبر ذويهم، ولعلي أغطي اجساد امهاتنا واخواتنا وبناتنا عن أنظار "الكفار" وهن "حريم" حكامنا الذين لا يرف لهم جفنٌ لهول المأساة التي تحل بنا، ولا يعنيهم انكشاف اجسادهن وهي "عورة" هؤلاء الذين اغتصبوا ارادتنا وانفردوا بعورات نسائنا البتولات ..!
لا صدىً لكل ما يجري تداوله من مشاهد الموت والفجيعة والهول كل يوم. لا يقظة تحرك ضمائر ونفوسٍ تآكلت بفعل الاعتياد على مشاهد الموت اليومي على الهوية. ولا رحمة في قلوبٍ تحول نبضها الى مجساتٍ لاشاعة الكراهية وفنون الاستئثار والانانية بلا حدود ..
كيف لنفوس اعتادت على اغتصاب الارواح والاموال، وجعلت ابناءها و"حريمها " في حرزٍ أمينٍ بعيداً عن الحرائق التي تحيط بالعراقيين، تتمتع بخيرات وحماية دول اوربية "كافرة"، كيف لها ان تتحسس محنة المهاجرين وهم ادوات قهرهم في وطنهم؟ من اين يمكن أن يأتي الاحساس لهؤلاء الحكام، كبار مسؤولي الدولة العراقية المتصدعة الاركان، وتظهر علامات الفجيعة على محيّاهم التي "تعفّرت" من شدة التقوى والسجود، وبان الايمان الملفق في ملامحهم وهي تسخر من سذاجتنا؟ متى نستيقظ من احلامنا العجاف وننفض اوهامنا لندرك انهم يريدون ان نموت بغيضنا، ويدفعنا اليأس والمهانة الى حافة "الكفر" والانسلاخ من هويتنا وتقوانا، ونضيع في حُمّى شكوكنا وهواجسنا، فلا نعود لنفرق بين ايمان الضمائر والتقوى الزائفة التي يشيع في اوشامها البهتان والرذيلة، والايمان مجرداً من الرحمة وقيم التكافل، كفرٌ لا تتكفل برده كل كتب السماوات والقوانين الوضعية؟ ..
أي سخرية ومقاربة لها تتلبسنا، إذ كنا نهرب ونهاجر ونُقسر على الهجرة من الاستبداد، فإذا بالتغيير والعراق الجديد والنظام الديمقراطي يصبح طارداً لمواطنيه بامتياز، فتتعدد اسباب الهروب والنجاة والهجرة، بعد ان اغتنت قواميس السياسة بمصطلحاتٍ مبتكرة للعراق المهزوم من داخله: "المحاصصة الطائفية"، "التوازن الطائفي" ، "الفيدرالية بضلعٍ أحادي"، وهي تعابير وابتكاراتٍ اصبحت حوامل لنهب منظم ولفسادٍ حسب الطلب، فساد للتصدير، وإفسادٍ للاستيراد ..!
اننا فرحون بيقظتنا اذ نتظاهر مطالبين بالاصلاح، متناسين ما يتهددنا من عوامل إفقارٍ ليست أقل شروراً مما بات ملازماً لحيرتنا وغيبوبتنا التي سلبتنا القدرة على امعان الفكر في حجم مصائبنا.
أي إصلاحٍ يعيد الى العراقي كرامته وغيرته ومواطنيته التي تفككت ولا يُراد لها الا أن تزداد اهتراءً وتمزقاً وانسلاخاً عن دلالاتها؟
نحن نتظاهر، وهم يتظاهرون ، والكل يتظاهر، والرهان على من يتعب اولاً ..!
نحن نتظاهر، وكلما اتسعت مساحة مظاهراتنا ازدادت شعاراتنا وتعددت اهدافنا، تتقاسمنا وتتجاذب اهواءً ومشارب تتخفى وراء بعضها كمائن تراهن على أن نتعب ونضيع وسط خرائبهم ..
أي اصلاحٍ ومساحة الامل تتضاءل كلما غرق مركبٌ تضيع آثار مهاجرين عراقيين فيه؟ ..
أي إصلاحٍ ، والمشهد لم يختف منه ولا وجه فاسدٍ واحد؟ ..
ايها المنادون بالاصلاح في الساحات والميادين ، لا تنسوا مهاجريكم الهاربين من الفقر والقلق على مستقبل اولادهم والعسف ..
ايها المبادر بقبول نداء الاصلاح، المهاجر لا ينتظر الدعوة بالرحمة، بل قبساً من الامل يفتح امام ذويه باب الفرج ..
نعم للخبز والحرية والعدالة الاجتماعية
لكن الامل هو الطاقة المتجددة للتغيير والاصلاح ..
فاي زورق نجاة سينجو من الاعصار :
زورق المهاجر المهزوم، أم زورق الاصلاح والتغيير..؟
جميع التعليقات 1
ابو سجاد
هذا ليس غريبا على العراقيين خصوصا وعلى العرب عموما تلك الهجرةاذا اردت ان تلوم هؤلاء ماتسميهم برلمانيون وحكومة فلك الحق ان هؤلاء او غالبيتهم ذاقوا ذل ومهانة الهجرة ولكن هؤلاء ليس بشرا لو كانوا كذلك لما ارتضوا للعراقيين اعادة ذل المهانة ولكنهم ليس بشرا انهم