قد أنفرِد بعض الشيء، لو حسبت ان اهم قرار اتخذه حيدر العبادي على طريق الإصلاح هو عزمه فتح المنطقة الخضراء وشوارع بغداد المغلقة من قبل الأحزاب والشخصيات المتنفذة. برأيي، لو طبق هذا القرار، فحقا سيكون اول ضربة معلم وجهت لعمق دولة الفساد العملاقة. كل القرارات السابقة، والتي لا اقلل من أهميتها، لم تطعن المفسدين في الصميم مثل هذا. دليلي ان دولة الفساد ما ان سمعت به حتى اوعزت لشبكتها العنكبوتية بالبرلمان لجمع تواقيع لاستجواب العبادي بحجة استضافته في محاولة لثنيه عن تنفيذه. باختصار إني اراه هو القشة التي اما أن تقصم ظهر الدولة العراقية او ظهر دولة الفساد. وان كنت قد تطرقت في عمود سابق الى وصف دولة الفساد وبناها الفوقية المنتشرة افقيا في عموم العراق، لكني لم اتطرق الى عاصمتها التي تشكل نواة بنيتها التحتية والعمودية.
منذ اليوم الأول لاستلام المالكي للسلطة اول مرة يبدو انه اتخذ قرارا سريا بإلغاء بغداد المدورة كعاصمة لجمهورية العراق واستبدالها بالخضراء المسوّرة عاصمة لدولته الجديدة. ربما من هنا اختار لنفسه لقب "دولة".
بدعوة شخصية منه زرته في عاصمته الجديدة بعد ان مر على حكمه قرابة سنتين. كان ذلك في 21/5/2007. شعرت بغربة شديدة: وجوه ليست كوجوه اهلي. لهجة لم تعتد عليها اذني من قبل. بعضها كما الطلاسم. لم أكن في العراق ابدا. هناك تذكرت قصيدة شجاعة كتبها كريم العماري خاطب بها صديقنا الشاعر العمارتلي كاظم لاله الذي سفّره نظام البعث في أواسط السبعينات الى ايران بحجة التبعية. أتذكر منها:
يالغريب .. المن تراوي هويتك يالغريب؟
بيها دمك موش دمهم .. بيها رسمك مو رسمهم
وهكذا كنت طوال الايام الخمسة التي قضيتها في العاصمة الخضراء.
وعلى ذكر اللهجة أتذكر انه كان بجانبي النائب البرلماني الصدري فلاح شنشل. سمعت احد مسؤولي الخضراء الكبار يقول لمتحدث معه على الهاتف "احجي .. أهيسك .. أهيسك". سألت شنشل: شنو يعني "أهيسك"؟ ضحك بعد أن برطم وهزّ يده وقال: يقصد اسمعك. معقولة؟
في يوم آخر سمعت مستشارا شخصيا لدولته، كان على الهاتف أيضا، يصر على الطرف الآخر ويوجهه: لو يموت لا تنطيه ستين واذا كلش كلش سويها خمسة وخمسين او بطّل "الشراية" كلها. التفت لشخص كان بجنبي ولا اعرفه. سألته مازحا: يبدوا اخونا بخيل جدا بحيث وكفها على خمسة. رد علي شعبالك شنو الخمسة؟ أي غير خمسة آلاف دينار. رمقني بنظرة فيها شيء من الاشفاق: ثاري انت صدك غشيم ومن اهل الله .. با عي هاي خمس ملايين دولار .. ابهاي الولاية ماكو تعامل بالدينار ولا بالآلاف .. هنا ملايين الدولارات هي التي تتحدث!
شعرت بدوخة ولعبان نفس. لم تكن العملة فقط هي التي تختلف في عاصمتهم، بل حتى الهواء هناك يختلف عن هواء عاصمتنا "الملغاة".
سأكمل.
أعيدوا بغداد عاصمة للعراق
[post-views]
نشر في: 31 أغسطس, 2015: 09:01 م