سيقال دون شك أن هناك برنامجاً، وأن السيد العبادي يتصرف وفقاً لما يراه في إطار برنامجه المعتمد ، والحُزَم الإصلاحية المتتالية تؤكد ذلك. لكن البرنامج لكي يكون قابلاً للتطبيق ومقنعاً ومجسداً لإرادة المطالبين به، لابد أن يكون مُشهراً تتابع حلقاته المتصلة
سيقال دون شك أن هناك برنامجاً، وأن السيد العبادي يتصرف وفقاً لما يراه في إطار برنامجه المعتمد ، والحُزَم الإصلاحية المتتالية تؤكد ذلك. لكن البرنامج لكي يكون قابلاً للتطبيق ومقنعاً ومجسداً لإرادة المطالبين به، لابد أن يكون مُشهراً تتابع حلقاته المتصلة، ان تعذر أن يحظى بقبول شعبي عبر استفتاءٍ عام أو استبيان آراء أو أي صيغة من صيغ التفاعل مع الرأي العام ومجساته. وهنا يمكن أن يقال أيضاً أن الاصلاح الراهن تدبيرٌ خارج السياقات التقليدية، فهو محاولة لكسر إرادة مقررة قائمة، والخروج عن دائرة فرضياتها ودون إذن منها، وهذه الإرادة المهيمنة جرى التعبير عنها منذ سقوط النظام الاستبدادي عام ٢٠٠٣ بالعملية السياسية ، والهيئات "الشرعية" المنبثقة عن "توافقاتها" في اطار ما صار متعارفاً عليه بـ"المحاصصة الطائفية". وليس من المنطقي سياسياً أن لا نجد بديلاً ينسجم مع الظرف الاستثنائي الذي تدار فيه عملية الاصلاح والتغيير، إذا ما افترضنا جدلاً صحة كل التوصيفات المُساقة للإصلاح الذي بادر لاعلانه السيد العبادي، تحت ضغط الشارع وبدعم من المرجعية الدينية في النجف، وتحت ثقل الشعور بان ما هو قائم لا يمكن أن تقوم له قائمة وتدوم اذا استمر الوضع على ما هو عليه من تفسخٍ وانهيارٍ للمنظومة السياسية في الدولة وفي الحياة السياسية، واستشراءٍ لم يسبق له من مثيل للفساد والنهب وانعدام الخدمات والتعديات ، وافتضاحٍ لسوية القيادات والمؤسسات والكتل ورجالاتها المتسلطين على الشأن العام . ان استثنائية عملية الإصلاح والظروف المحيطة بها ، تتطلب بالضرورة اعتماد آلياتٍ إستثنائية ، شرط أن تكون مفهومة ديمقراطياً، لا بمعنى أخذ سياقات تطالب بها القوى المتضررة منها ، أو التقليدية التي تسعى لإجهاضها وإفراغها من محتواها وحرفها عن مساراتها التي تستجيب لمطالب الجماهير، بل على العكس تماماً، بمعنى توضيح مفرداتها ووضعها حسب الأولويات المطلوبة ، بدءاً بتحقيق الخدمات الضرورية واتخاذ اجراءات ملموسة مقنعة لا تطاول الفساد فحسب بل تمتد ولو بالحدود الدنيا الى جذوره وبيئته مما يطمئن المحتجين والمتظاهرين بأن الامور تسير في اتجاه انهاء الاوضاع القائمة وتتدرج في انهاء معاناة المواطنين المكتوين بالخراب . إن الخروج الاسبوعي للعراقيين الى الساحات والشوارع ، احتجاجاً ومطالبةً ، يمكن اعتباره برلماناً شعبياً وشكلاً مباشراً للتعبير والاستفتاء الاستثنائي . بل هو كذلك من خلال ما يُرفع فيه من شعارات ومطالب في كل جمعة مباركة، بالتأييد لما يُتخذ من قرارات وحُزم اصلاحية، والرفض والتنديد لما يُشار اليه كتسويفٍ او مُمانعة أو عدم استجابة للارادة الوطنية، وما ينبغي اعتماده كأولوية راجحة في الاصلاحات التي يُراد لها أن تأخذ مجراها في حُزمة آتية.. وليس للعبادي أطار اكثر فعالية واستجابة لاصلاحاته غير هؤلاء المتظاهرين، ليطرح عليهم دون ترددٍ أو قلقٍ ، برنامجاً اصلاحياً في حزمة واحدة ، قد تتدرج في التطبيق . وخلافاً للتقاليد السياسية التي يجري الأخذ بها في الظروف الاعتيادية ، فإن برنامجاً اصلاحياً فعالاً وقابلاً للتطبيق ، لا يحتاج الى ديباجة طويلة تضيع في تفاصيله الأهداف الملموسة ، بل يقتضي مفرداتٍ بصياغات بسيطة واضحة بلا تعقيدٍ أو التواء . ومثل هذه الخطوة ليست ضمانة وتطميناً للمتظاهرين وما يعبرون عنه فحسب ، بل هي حصانة وحماية للعبادي نفسه ، وتأميناً لإصلاحاته وسداً منيعاً بوجه من يستهدفه او يحاول النيل منه واجهاض اصلاحاته . لكن ذلك لا يكفي .. فالإصلاحات بما هي تجاوزٌ للسياقات التقليدية ، تتطلب الى جانب صياغة البرنامج وطرحه مسبقاً على المتظاهرين "البرلمان الافتراضي"، تحديد اشهار ادواته المعنية بتطبيقه، والفريق الذي يعتمده رئيس مجلس الوزراء في صياغة مبادئه ومفرداته وتحديد أولوياته وشروط نجاحه. ويشكل مثل هذا التوجه وحسن اختيار الفريق تطميناً ضرورياً لجميع الفرقاء ، المطالبين بالإصلاح والمساندين له من جانب ، وكل المتربصين بالعملية وصاحبها، وهم ليسوا قلة ، أو بلا حولٍ وطاقة على خلق الصعوبات على طريق الاصلاح . ومن بين اكثر ما يمكن اعتماده لتوسيع دائرة المقاومة للاصلاح واتخاذ مواقف مترددة او محايدة أو لا مبالية ، هو إثارة التساؤل والقلق من تحوّل عملية الإصلاح الى "منصة" لتكريس الانفراد في السلطة وخلق بيئة تحول دون إقامة دولة المؤسسات والقانون والحريات وحقوق الإنسان، ونظام تداول السلطة وتجنب إعادة انتاج ما جاء العبادي على خلاف ما كان يُراد له أن يسود.! أمن الممكن أن يتهيأ العبادي ليحول الجمعة القادمة الى برلمان للتصويت على برنامجه الإصلاحي..؟