3-5
في عمود الأسبوع الماضي تحدثت عن الثيمات التي حوتها الملحمة الجرمانية "نشيد نيبلونغن"، هذه وكم تبدو معاصرة بالنسبة لنا حتى اليوم، خاصة فيما يخص الهاربين، المنفيين، المختطفين والمشردين، لنأخذ الملك روديغير فون بولشرن. أنه يأتي مع جماعته مشرداً إلى مملكة الهُون الوثنية التي يحكمها الملك أتزيل، كل ما يملكه روديغير هو ملك أتزيل، ليس ذلك وحسب، بل كمشرد عليه أن يتورط في القتال بين الهُون الوثنيين والبورغوند المسيحيين، رغم أنه يخون نفسه بذلك، لأنه هو الذي ورط البورغوند بدعوتهم لزيارة مملكة الهُون التي اصبحت فيها أختهم كريمهيلت ملكة عليها بعد زواجها كأرملة من الملك أتزيل. أوقعهم في الشرك دون أن يدري، أن كريمهيلت دعتهم للانتقام منهم، ثأراً لمقتل سيفيريت ولسرقة كنزها الذي ورثته منه، ولاؤه لأتزيل زوج كليمهيلت، يجبره على القتال إلى جانب الهُون. هاغن فون ترونية عاش وهو طفل سجينأ مختطفاً في بلاط أتزيل، هناك تعلم وتربى ويعود كرجل، لكي يقتل ويموت. أستطيع أن أحصي حوادث ومقارنات كثيرة في نشيد نيبلونغين تشبه المعارك التي نعيشها هنا وفي زماننا، دون أن أتعب، لكن قبل كل شيء، ما يرويه لي هذا النشيد، هو أن شخصية واحدة تتصدر مركز الأحداث بطغاء ولا رحمة . شخصية تستحوذ على التأثير منذ البداية، تعطي المشورة، تحذر وتتبدر الأمور، لكن أيضاً شخصية تثير الكراهية وتحرض على الموت، إذا أبدى ملك ما الضعف. شخصية، تحيك الخيوط بيدها تكتيكياً بشكل ذكي في ظلال الملك الذي تعيش في كنفه، إلى درجة أنها تتحول إلى النقطة المركز التي تتشكل في فلكها الملحمة في النهاية، أنها شخصية: هاغن فون ترونية.
ليس صحيحاً ما نقرأه في النص الملحمي القادم من القرن الثالث عشر، وهو أن ملوك مملكة بورغند "لقوا حتفهم نتيجة كراهية وقعت بين ملكتين هما: كريمهيلت وبرونهيلت". كلا، الكارثة التي حلت والتي قادت ليس إلى اندثار مملكة بورغند وأهلها وحسب بل إلى إبادة مملكة الهُون أيضأً ومعها حلفاؤها، بمن فيهم المشردون الذين التفوا أو تبعوا الفارس روديغير (كما تناولت في بداية العمود)، ما كانت حصلت لولا سياسة هاغن: هاغن فون ترونية. هافن فون ترونية هذا يأخذ وظيفة المستشار السياسي، والذي يبدو في بداية الملحمة رجلاً حكيماً عندما يقترح على ملوك بورغوند عدم قتال "البطل" سفريت، لأنه سيهزمهم بالتأكيد، بدل ذلك عليهم الاستفادة من أعماله البطولية وتزويجه أختهم كريمهيلت، هاغن الذي سيكشف عن نفسه شيئاً فشيئاً عن عدم تردده باللجوء للخديعة والحرب ولاءً لملوك بورغوند، والذي يصل نهمه للقتل، إلى درجة أنه سيحارب القدر، فعندما يسمع تنبؤ عرافتين (نساء البحر) تقولان للبورغند وهم على سفنهم في طريقهم إلى أراضي الهُون، عليهم أن يسلحوا أنفسهم جيداً، لأن لا أحد سيعود إلى وطنه سالماً، باستثناء القسيس المعاون (كابلان)، يقرر هاغن قتله غرقاً، ولأننا في نص "مسيحي"، ينجو القسيس بمساعدة القدرة الالهية طبعاً، التي ستنتشله من الغرق هو الذي لا يعرف السباحة، هاغن هذا الذي كلما نقترب من النهاية كلما يتصاعد نهمه للقتل، كلما يسلم نفسه لعمى القلب، أقول هاغن هذا هو نموذج للسياسي الماكر، الثعلب، الذي يظن أنه وحده صاحب الحكمة والحل، دون أن يدري أنه بعناده ينهي الجميع، فحتى اللحظة الأخيرة تساومه كريمهيلت بحياته وحياة أهالي بورغند مقابل إرجاع كنز نيبلونغين الذي ورثته من زوجها السابق سيفريت، وسرقه هاغن منها، فيرفض، أنه بخله وعناده الذي جعله يردّ عرضها، ليقود شعبه إلى حتفه بسبب سياسته الخاطئة.
يتبع
فيما خصَّ تجارة السلاح والحرب
[post-views]
نشر في: 1 سبتمبر, 2015: 09:01 م