TOP

جريدة المدى > عام > الترجمة: معنى أم تقنية؟ 2-2

الترجمة: معنى أم تقنية؟ 2-2

نشر في: 5 سبتمبر, 2015: 12:01 ص

الغريب أن المرحوم طه ترجم : " Cheese digests all but itself " أيْ: "الجبنة تكاد تهضم نفسها"، بالصورة التالية: "تهضم الجبنة كلّ شيء عداها". كان هذا التعبير: "الجبنة تهضم نفسها" شائعاً في القرن التاسع عشر، حيث كانت عملية صنع الجبن شعبية واعتبرت مثل عمل

الغريب أن المرحوم طه ترجم : " Cheese digests all but itself " أيْ: "الجبنة تكاد تهضم نفسها"، بالصورة التالية: "تهضم الجبنة كلّ شيء عداها". كان هذا التعبير: "الجبنة تهضم نفسها" شائعاً في القرن التاسع عشر، حيث كانت عملية صنع الجبن شعبية واعتبرت مثل عملية الهضم، لأنها تتطلب استعمال الأنفخة (الغشاء المبطّن لمعدة العجل الرابعة)، وهي مادّة تؤخذ من معدة الحيوان وتستعمل لتخثير اللبن.

جاء بعد الجملة أعلاه مباشرة: "Mity cheese "، أي الديدان المفصلية، إلاّ أنها في ترجمة طه انقلبت إلى: "الجبنة العظيمة"، متصوراً أنّ Mity هي Mighty. وقبل ذلك تصوّر أنّ معنى: All but: كل شيء عدا. المعروف أنّ الديدان المفصلية تتكاثر في الجبنة وتهضمها، تاركة كتلة طحينية بنية اللون حيثما وأينما انتقلتْ.
أكثر من ذلك ترجم المرحوم طه بعض الجمل بعكس معناها. من ذلك مثلاً، وصْفُ بلوم لصبيّ أعمى وكيف يكون احترازه في تجنب المخاطر، قائلاً: "Behind a bull: in front of a horse" أيْ خلف ثور، أمام حصان" وذلك لانّ الثور لا يركل إلى الخلف ولا الحصان يرفس إلى الأمام. إلاّ أن الترجمة جاءت عكس ذلك: " أمام ثور خلف حصان".
المعروف أنّ المرحوم طه ترك التعابير غير الإنكليزية على حالها، بلغاتها الأصلية، غيرَ محاوِلٍ إعانة القارئ على فهمها ولو بحاشية. من تلك التعابير في هذا الجزء موضوع البحث: LA CAUSA SANTA: أي القضية مقدسة، ووضعها باللغة الإيطالية.
وردتْ هذه العبارة في غناء انفرادي في الفصل الرابع من أوبرا LES HUGUENOTS. تعالج الأوبرا مذبحة البروتستانت الفرنسيين عام 1572.
تصرّف المترجم كذلك ببعض الكلمات التي وردت في الكتب الدينية ولم يرجع إلى أصولها، من ذلك:
ترجم "Wheels within wheels": "حلقات متشابكة في حلقات"، غير أنّ بلوم استعملها على غرار سِفْر حزقيال: (الإصحاح الأوّل-15 –16) : "فنظرت الحيوانات وإذا بكرةٌ واحدةٌ على الأرض بجانب الحيوانات بأوجهها الأربعة. منظر البكرات وصنعتها لمنظر الزبرجد. وللأربع شكل واحد ومنظرها وصنعتها كأنها بكرة وسط بكرة".
من ذلك أيضاً ما ورد في ترجمة المرحوم طه: "يا تُرى ما طعم لحم البجع" بدلاً من لحم البطوط التي كان شأنها شأن الغربان والنوارس غير نظيفة في سفر لاويين (الإصحاح11/13 –18). مع ذلك فقد كان لحم البط من الأطعمة الشهية بإنكلترا في العصور الوسطى. على هذا أُعتبر البط من الطيور التابعة ملكيتها إلى العائلة المالكة، وللملك وحده حقُّ التصرّف بها.
المترجم الآخر الذي يجمل التوقف عنده، هو جبرا إبراهيم جبرا، نظراً لما له من صيت في هذا الباب. يبدو أنّ المرحوم جبرا لم يُولِ الاهتمام الكافي للمصطلحات الخاصة بشيكسبير لدى ترجمته لمكبث. أو ربّمالم يلتفتْ إلى تقنيات شيكسبير التعبيرية، لذا مذقتْ ترجمته لدرجة ضاع معها طعم الأصل.
قد نهتدي إلى جواب أكثر إقناعاً لو أننا وُفِّقنا إلى جواب أو أجوبة عن الأسئلة التالية: لماذا تعددت نسخ كل مسرحية من مسرحيات شيكسبير؟ بكلمات أخرى، ما الفرق بين هذا المحقق وذاك؟ هل مردّ ذلك، إلى الاختلافات في المخطوطات الأصلية، أم في ثقافة المحققين؟ أمْ يا تُرى في فهم صناعة التأليف عموماً، والإحاطة بمعرفة تقنيات شيكسبير على وجه الخصوص؟
من المحتمل أنّ معرفة تقنيات الكاتب، شاعراً كان أمْ ناثراً، هي سرّ الاختلاف بين المحققين وبالتالي المترجمين، وسر البعد أو القرب من النصّ الأصلي.
خشية الإطالة، سنتناول هنا تقنية الحواس وأهميتها في تقويم النصّ ونرى كيف يؤدي فهمها إلى اقتراب الترجمة من النصّ الأصلي.
الحواس:
ما من شاعر فَصَل الحواس عن بعضها، وجعلها غريبة ومتصارعة، فيما بينها، مثل ما فعل شيكسبير –كما يبدو-، ولا سيّما في مسرحية مكبث.
إنها علامته الفارقة. أمّا تقنيته في ذلك فمدهشة.
أوّلاً يعطّل شيكسبير، الوعي، ويجعل الحواس تنوب عنه بالتفكير، واتخاذ القرار. على هذا يتخذ الصراع بين الحواس، وبغياب الوعي، صيغة مأساويّة أعمق، قد تقود إلى التهلكة. الجنون في كلّ الأحوال مضمون.
فاعتباراً من الفصل الخامس، على سبيل المثال، يعطّل شيكسبير وعيَ الليدي مكبث. تسير في نومها. عيناها مفتوحتان، إلاّ أنّهما عاطلتان. ما من فائدة حتى لنور الشمعة التي كانت تحملها بيدها. لا ترى، ما تراه. أو ترى ما لا تراه. ظلّت تغسل بقعة دم الملك دَنْكِنْ الوهمية لربع ساعة، تغسل وهماً لربع ساعة، وتصيح:
"إمّحي أيتها البقعة اللعينة! إمّحي".
كذا الأمر، بتعطيل الوعي، بتعطيل النور، بتعطيل حاستي البصر والسمع، تظهر حاسة الشمّ بأعلى صورها ضراوة وتوحّشاً: "هنا ما تزال رائحة الدم، كل عطور العرب لن تُطيِّب هذه اليد الصغيرة. واهٍ! واهٍ! واهٍ!"
يتمزّق الإنسان أوّل ما يتمزّق حينما تتقاتل حواسّه. تَقاتُلُ الحواس أغرب معركة ، أوّلاً لأنّها غير منظورة، وثانياً لأنّ انتصار أية حاسة، إنما هو اندحار شامل للإنسان.
كانت الليدي مكبث تحمل بيدها نوراً عقيماً، شمعة مظلمة. جاء في سفر أيوب –( الإصحاح الثامن عشر –6-): "النور يظلم في خيمته وسراجه فوقه يظلم". إلاّ أنّ شمعة مكبث تختلف عن شمعة زوجته، وإن تشابهتا شمعاً وفتيلاً. مكبث يصيح: "انطفئي، انطفئي أيتها الشمعة القصيرة الأجل". أراد أنْ يطفئ الشموع التي كانت تضيء خشبة المسرح، أو أنه يا تُرى أراد أنْ يطفئ نور الوجود؟ الظلام منقذه الوحيد. ما من منقذ سواه. أين يجد الظلام أذنْ؟ أراد أنْ ينتصر على حاسة بصره:
"بدأتُ أتعب من شمس الحياة،
وأرغب الآن لو أنّ هيكل الوجود يتدمّر.-
اقرعوا ناقوس الخطر- اعصفي يا ريح!
تعال يا خراب"
عصفت الريح ولكنها عصفت عليه من داخله. جاءه الخراب من داخله. حواسّه تتفكك، تتفكك وتنفصل عن بعضها بعضاً.
إلاّ أنّ جبرا لم يلتفت إلى قدرة شيكسبير العجيبة على استعمال الحواس، ولا إلى أهمية المنظورية في رسم الصور الشعرية.
- للمقالة صلة-

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram