قبل سنوات طويلة، حين كنت طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد اشتريت كتاباً فنياً من مكتبة الفلفلي في سوق السراي، جذبتني لوحة الغلاف وقتها وكانت لرسام أتعرف عليه لأول مرة وهو الفنان (أيشر) ولوحته تلك المطبوعة في الذاكرة اسمها (الليل والنهار) حيث تتداخل الخطوط والمساحات لتنتج من تداخلها الغريب والساحر طيور بيضاء تطير نحو جهة اليسار وطيور سوداء تطير الى جهة اليمين. في هذه اللحظات أستعيد ذلك الكتاب البعيد الذي غمرني وقتها بالفرح وأنا أقف الآن أمام نفس العمل في متحف الفنان أيشر.
كنت قد قطعت شوارع مدينة لاهاي وأنا أحث الخطى للوصول الى المتحف الذي كان في وقت مضى قصر ملكة هولندا السابقة فليامين، وهذا ما توشي به أيضاً واجهته وبوابته الفخمة والبلكون الذي يغلب عليه اللون الذهبي، وقد تنازلت العائلة المالكة عن القصر ليكون متحفاً راقياً وجميلاً لفنان تحتفي به هولندا بعد أن تخطت شهرته الحدود وذاع صيته في كل العالم بسبب طرافة أعماله وتفرد تقنيتها.
دخلت المتحف وأذا بي أمام غرابة لا تنتهي واسرار كأنها أحجية ممزوجة بأحبار الرسم، هنا تشعر بانك في عالم غامض وجديد هو عالم الرسام أيشر، في هذا المكان يتداخل الخداع البصري مع تقنية فريدة في استعمال الأسود والأبيض إضافة الى رؤية أصيلة وفلسفة خاصة بالفنان، لينتج في النهاية من هذا كله شيء جديد وغير مألوف. ربما هناك جملة واحدة فقط مناسبة لوصف هذا العالم، وهي ان الفن خدعة بصرية بالفعل.
لم يكن الفنان أيشر (1898-1972) مميزاً في المدرسة بل كان لا يطيق الجلوس في قاعة الصف وبدلاً عن ذلك كان يتأمل تفاصيل السلالم الكبيرة للصفوف، تلك السلالم الملتفة على بعضها مثل دوّامة لا متناهية، ويسرح بخياله بعيداً وهو ينظر الى واجهة السياج والصفوف. كل هذا انعكس على تفاصيل أعماله فيما بعد وكأنه خزنه في ذاكرته وأعاد انتاجه من جديد. أنه يعرف كيف يختار مواضيعه والزوايا التي ينظر من خلالها الى تلك المواضيع حيث تلعب مفردات الطبيعة التي ينتقيها وكذلك تلاعبه بالمنظور والأشكال التي تبدو منعكسة من خلال مرآة دوراً كبيراً في إظهار فلسفته الخاصة ورؤيته المتفردة. هناك فنانون كثيرون تلاعبوا أو غيّروا رؤيتهم للمنظور مثل الأيطالي دي جيريكو والهولندي فيلينك والالماني كيرشنر، لكن أشر أبتعد عنهم كثيراً وتجاوز خطواتهم الصغيرة في هذا المجال ليؤسس مدينة خاصة به وعالما وضع فيه شيئا من روحه قبل أن يضع عليه بصمته وفرادته الخالدة. لقد استعمل المنظور بطريقة لم يستعملها أحد من قبل، وحتى الفراغات التي تظهر بين الشخصيات والمفردات التي يرسمها كوَّن منها شخصيات وأشكالا جديدة تحاكي الشخصيات الرئيسية وتتداخل معها في جاذبية وسحر لا ينتهي. إنه ببساطة ينظر الى كل الاشياء التي حوله بطريقة مختلفة، وحتى حين طلبت منه بلدية مدينة دلفت أن يرسم لها عملاً يتعلق بالمدينة، صعد الى أعلى برج في الكنيسة ليختار الزاوية أو المنظور المناسب للموضوع، ثم أنجز عملاً مدهشاً بعد أن رأى المدينة بنظرة الطائر. كان يقول دائماً "يجب أن لا يكون البيت بيتاً، والحيطان كذلك يجب أن لا تشبه حيطانا أخرى" ثم يتساءل "هل نحن متأكدين بأن أرضية الغرفة لا يمكنها أن تكون سقفاً ؟ وهل نحن على يقين كافٍ بأن ارتقاءنا السلَّم سيقودنا في كل الأحوال الى الأعلى؟"
لقد فهمت كل ذلك وعرفته وأنا أتجول في المتحف، نعم لقد رأيت ذلك وتحسسته بنفسي وأنا أنظر الى عمله الأخير (الكرة الحلزونية) لقد شعرت أن الكرة تتحرك رغم أنها في الحقيقة مرسومة على ورقة مسطحة.
الرسام الذي جعل أشكاله تتحرك على الورق
[post-views]
نشر في: 4 سبتمبر, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
صالح كريم عباس
صفحتي عَل الفيس بوك صالح كريم اتمنى الصافي فنان في البصره اعتقد مظلوم ومظلوم اتمنى ان اجد شيء عني في جريدتكم