قبل عامين لفتت نظري حكاية من افغانستان، عن قرية اسمها "صالح اندر آب"، ولا ادري ماذا تعني دقيقا بالافغانية، غير ان العبارة بمعايير اللسان الفارسي المماثل، تعني "صالح في الماء" او تحت الماء.
والحكاية تتعلق بالسيد عبدالرسول مدير بلدية هذه القرية الواقعة غربي افغانستان، فقد لقي حتفه اثناء محاولته اغلاق متاجر تبيع "الماكياج النسائي". ان حظه العاثر اخذه نحو بائع "عصبي جدا" اعترض على القرار واطلق ثلاث رصاصات استقرت في رأس مدير البلدية.
ويتعلق الجزء الاكثر حزنا من الحكاية، بكون عبد الرسول مسؤولا معتدلا، فهو لم يحاول منع الماكياج، وإنما كان ينوي حماية الباعة من رجال دين شباب اصدروا فتوى بحرمة "الماكياج" وقرروا احراق المحلات مع حشد من مؤيديهم. لقد حاول مدير البلدية ان يستبق الامر وينقذ باعة مواد التجميل من القتل، فقتله بائع عصبي.
ودون تفكير طويل، وجدت نفسي انتقل من مأساة اللاجئين الراهنة وهم يغرقون على ضفتي المتوسط، وصورة الطفل ايلان، الى المرحوم عبدالرسول من قرية "صالح في الماء". لقد شجعني اسم القرية يومها على التفكير برمزية تقسم الدنيا، الى عالم فوق الماء تسطع عليه الشمس، وعالم في قعر الماء المظلم البارد وذي الخيارات الضيقة. عبدالرسول واهل قريته كانوا غرقى بالتشدد المميت. ومعظم مدننا تغرق في خراب الثقافة والسياسة. والدنيا المنافسة تواصل هزيمتنا.
اما العالم فهو لا يسمع استغاثاتنا وشكوانا بشكل مناسب، لانها تأتي من مكان بعيد تحت الماء وفي ذلك القعر المظلم. عقولنا لم تعد تعمل بشكل صحيح، لانها تكيفت مع مستوى الضغط وانعدام الرؤية أسفل القعر. ولنفس السبب لا يوجد لمشاكلنا تصنيف دقيق في قواميس الازمات الدولية، وهي كلها مشاكل عتيقة وبالية ومضحكة حد المأساة مثل حكاية الماكياج الافغاني. ولذلك ايضا فإن الأمم التي تعيش "فوق الماء" مشغولة عنا بمفاوضاتها حول انبعاث غاز الدفيئة وأثره على ثقب الأوزون، وهي تتقاتل على قواعد الضرائب وتدفق السلع وتقاسم الأسواق. ومشغولة بالمعيار الأخلاقي الذي يجب ان يتوقف (او لا يتوقف) عنده علم الهندسة الوراثية. وبينما تتناقش تلك الأمم، يظهر تقرير عن عراك مميت يرتهن أهالي "امبراطورية صالح تحت الماء" بسبب ماكياج امرأة او مقهى شبابي، او قبر مقصوف لخالد بن الوليد او حجر بن عدي.. او ذبح سماوي لفرقة تقوم به فرقة أخرى بسبب خلاف لاهوتي على "سر النجاة" الذي طلبه الله.
لقد ثار جدل حول نشر صورة الطفل ديلان. لان ذلك قد يخدش كرامته الانسانية. وانا كنت ممن ساندوا نشر الصورة، لانها تعبير عن صورة امة لا تمتلك الشجاعة الكافية لفهم اخطائها، ومراجعة افكارها، فتغرق وكان بإمكانها ان لا تغرق!
الصورة لا تذكرني فقط بقرية مدير البلدية عبد الرسول، "قرية صالح الغارقة في الماء"، بل ان صورة الطفل ايلان تعيد تذكيرنا بان حكام وزعماء الامة هم كذلك مجرد اطفال بلا عقل ولا خبرة، يثيرون الشفقة ويغرقون كل يوم على شواطئ الدنيا وتمضي معهم شعوبهم نحو القعر بلا عودة.
ولذلك فان علينا ان نحدق في صورة ايلان كثيرا، لندرك ان قرية المرحوم عبدالرسول، هي قارة مترامية الاطراف يمكن ان نطلق عليها "امبراطورية صالح الغارقة في الماء" او "اطلانطيس العمدة عبدالرسول والطفل ايلان"، كي نتوجه الى امراء الحرب المتقاتلين على القبور والمتصارعين على "اسرار النجاة" الالهية، ومحاربي الماكياج واولئك الذين يريدون "اقتيادنا الى الجنة بالسلاسل والسياط"، ونسأل كل هؤلاء من تحت الماء وفوقه، وبجدية اكبر: هل كان الامر يستحق هذا الحمق المتواصل؟
صالح تحت الماء ايضا
[post-views]
نشر في: 5 سبتمبر, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ابو سجاد
والله ياسيدي لااعرف بالضبط ماتعنيه تلك الاية التي تقول كنتم خير امتا اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر هل يقصد بها هذه الامة ام امة اخرى لانعرفهاام لايعلماه الا الراسخون في العلم اي معروف هذا تامر به هذه الامة انها كتلة من منكر راينا هذه الام