مسرحية: العشاء الأخيراخراج: عباس الخفاجي
استدرج عنوان "العشاء الأخير" , الكاتب عباس لطيف الى ان يجمع مقالاته في كتاب يحمل العنوان ذاته , مذيلا بلفظة "الطغاة" , متتبعا بعض حلقات السقوط الدراماتيكي للأنظمة العربية الشمولية – كما يصفها – عل
مسرحية: العشاء الأخير
اخراج: عباس الخفاجي
استدرج عنوان "العشاء الأخير" , الكاتب عباس لطيف الى ان يجمع مقالاته في كتاب يحمل العنوان ذاته , مذيلا بلفظة "الطغاة" , متتبعا بعض حلقات السقوط الدراماتيكي للأنظمة العربية الشمولية – كما يصفها – على يد الشعوب , التي هي (( ليست قطيعا يزحف خلف القائد الأوحد الهستيري الذي تصنع شخصيته الأجهزة الأمنية , والكتائب , والحرس الرئاسي )) ويضيف الكاتب الى توصيفاته في الكتاب , ان الدولة تحولت الى اقطاعية عائلية وان الكرسي صار جزءا من اعضائهم , لكن شر البلية ما يضحك , حين تجيء النهاية حزينة ومضحكة في آن واحد , لتعريهم وتطفئ خيالهم النرجسي , وتنتهي معهم (( رقصة السلطة العابرة )) ..
في مسرحية "العشاء الأخير" يذهب الى التفاؤل الذي يوظفه المسرح بما يمتلكه من جمال , وحقيقة , وإرادة , رغم الرماد والأحزان ويشاطره المخرج (عباس الخفاجي) في البحث عن مستوى مغاير من القراءة يتخلص من "عقدة المضامين المباشرة" الممثلة البطلة في العرض (بتول كاظم) تظهر بزي اسود ومعها قرينتها (اماني علاء) بزي ابيض من خلال الدخان والعتمة , والمجموعة الراقصة , بحركاتها التعبيرية , ويتوسط المنظر , حضور عربة صغيرة تحمل جسدا متهالكاً للمرأة , على خلفية مؤثرات سمعية من وقع اقدام , ونبض قلب , وضربات موسيقية خاطفة , وكذلك نسمع اغنية (ريفية) عراقية ممزوجة مع قطع موسيقية عالمية .
الممثلة باللون الأسود تظهر – أحيانا- بانها واثقة من نفسها , لكنها سرعان ما تنهار وتنحل ارادتها حين تتهددها , المرآة البيضاء , وتدمغها بالوهن , الممثلون والراقصون يتحركون بين فواصل العرض , الذي ينتقل من مكان الخلفية , المثقل بالجرائد , للتعبير عن الاعلام الفارغ , الذي أراده المخرج تعبيرا عن المتاجرة وتسويق الأكاذيب , وتبرئة الطغيان السياسي بما يقترفه من حماقات قاتلة تجاه هذه (المرأة ) التي تظهر تارة بأنها (فنانة) وتارة أخرى بانها مدرّسة تاريخ , تتقلب بين جدران المعتقل , وباتت ضحية للسلطة لانها تحدثت في محاضرة عابرة عن حقائق لا تتوافق مع سياسة الحكومة الرشيدة ! أحاطت بها المجموعة الراقصة لتعذبها وتتهمها بجرائم شتى !
ثم ينتقل السرد الى منطقة مجاورة ويدخل رجل بملابس ريف العراق , ويصرخ بلوعة عن فقدانه لولده بواحدة من فواجع العراق , ثم ترتمي عليه زوجته التي تريد وليدها هي أيضا . المرأة السوداء الممثلة والفنانة المثقفة , كان يستلبها من كانت تتعامل معه أمثال المنتج , وابن الحارس , والجار ولاتدري من هو الذي ارسل اليها رسالة تهديد ؟! الكل يستهدف هذه المرأة العزلاء من الحماية , ويترصدها بالتصفية . تغذ البيضاء خطاها , باتجاه اخر , وهي معالجة اخراجية أراد من خلالها المخرج ان يشطر الشخصية الى نصفين , ابيض واسود , في محاولة لاظهار بعد من الصراع الدرامي .
تتفجر صرخات الأم التي تريد ان تعرف مصير الأبناء هل قتلوا , دفنوا , اختطفوا .. ولكن لاجواب يأتيها من المعنيين , وختم على مصائرهم بمهر قاطع , عن ذهابهم الى غياهب المجهول .
تتهشم (الحوارات) , وتتداخل , وبعد ان تلفظت السوداء بالفصحى , تتصاعد اللهجة الدارجة , وتشاطرها البيضاء في ذلك المنحى .
رهط المجموعة الراقصة (تعبيريا) يضم طفلة وطفلا, تارة تكون الرقصة عن عيد ميلاد المرأة , وتبرز فيها رقصة بريئة بيضاء , فيها من الفرح والنقاء والعذوبة الكثير , ولكنها تكون في موقع اخر تعبيرا عن عيد وطني , لكن المخرج أراد منه بدعم من المؤلف , السخرية من أناشيد تمجد الاعلام البيضاء , لكنها الملطخة واقعيا , بالضحايا , والذين ساقتهم المنايا الى حتوفهم , تحت نشيد (لبيك يا علم العروبة) , الملطخ بزيف الأنظمة وكان المشهد صادما , وجارحا , من حيث الفكرة والمعالجة , فالبعد الوطني , والقومي , والاممي , يتصل بالإنسانية , وحتى الشاعر المتمرد (محمد الماغوط ) كان يعتذر من الوطن لأن في ذمته (بضعة أناشيد) وكلها تتعلق بالصراعات بين الأمم وحروب تقاسم النفوذ , وسرقة الثروات حاول المخرج ان يسوق حجته بانها أغان وشعارات ساقت البطلة , وسواها الى (الوهم) القاتل والضياع غير المجدي .
في انتقالة جديدة , تدفن المرآة , وهي قابعة تحت عباءتها السوداء , ورغم انها تنجو من مجزرة , وانها حية تتنفس وترجو من الدفان اعفاءها من الدفن , وكالعادة ينبغي ان يظهر هذا التابع صغاره وضعته , فانه مطلوب منه ان يكمل العدد (20) ولا يمكنه ان ينقصه رقما واحدا لأن العدد الكلي سوف ينقص لذلك يأمر بدفنها أسوة مع شقيقاتها من الجثث . في جانب اخر من المسرح تدخل السوداء الى عيادة طبيب تتمدد على سدية المرض , يظهر الطبيب تمثيل (ماجد عبد الجبار) بمظهر كاريكاتوري هزيل , لكنه يحاول ان يملي ارادته على المريضة ليتحول الى كائن خائب مهزوم , ويوافقها منصاعا , بانه هو نفسه بحاجة للعلاج النفسي .
هكذا يرتبط النسق الذي يريده المخرج بدمج , المغذي الطبي , مع عربة المسحوقين , مع أدوات العمل , في تحديها للموت الراهن . عرف الإخراج العالمي والعربي , والمحلي , ما كان يسمى بـ (الاوجرك) , وهو عبارة عن (سكيجات ) واقعية , وثائقية , مباشرة , التي حفل بها العرض منسوجة بسرديات مونودرامية , تفوقت فيها الممثلة (بتول كاظم ) لتردفها سرديات الممثلة (اماني علاء) بما يعزز فيها تلاوة محنتها على اسماع الجمهور .
تتكرر في بعض عروضنا المسرحية , فكرة التشهير ببعض القنوات الإعلامية العربية الشهيرة , وتتم بانها تبالغ في عرض الوقائع الخاصة بالتفجيرات , والتدمير في العراق وكأنها ترسل رسالة ضمنية من الشماتة المدعومة برأسمال التآمر والحقد وتنفيذ اجندات العمالة هكذا يظهر مراسل فضائية عربية تصحبه موسيقى المقدمة الخاصة بنشرة إخبارية , وهو يغالي في زيادة اعداد القتلى والجرحـــــــــــــى ! لكن السيدة في العرض تثور بوجهه , وتنهض من رقدتها , ليولي هاربا , بطريقة مضحكة , وهو يعاود تلاوة نشرته , ببلادة ! لاعتقاد المؤلف والمخرج أيضا ,بان الحدث المضحك يرتبط في الغالب , بخيط مرئي , بواقعنا المفجع ! وكأن العرض أراد من (هستيرية) هذه الشخوص المتناقضة لإرادة المراة الضحية , دليلا قائما عن حالة اقتران هذه المتناقضات الحياتية اليومية الحادة , في مجريات زمننا المأساوي– المضحك ! الذي باستطاعة الاعلام المدفوع الثمن , ان يحول الناقة الانثى الى جمل فحل ! علينا ان نصحح الأخطاء بمثل ماطالب (باشلار) من (العلم) ان يعالج (تاريخ اخطائه) . وكذلك ينبغي فضح المغالاة في (الدين) تحريفه عن مساره الإنساني الحق , وعدم اعتبار المرأة التي كرمها الله , بانها رفيقة الحياة , وليست عبدة , او عورة كما في مشهد يظهر فيه مجرم , يبيع النسوة في سوق النخاسة بالجملة والمفرد ! وبأسعار تشجيعية !
ان مجموعة الرقص (الكيروغراف) , باسم محمد كرار , مصطفى وايمان وليلى , أعطت للعرض طابعا ممتعا , مخففا للعتمة النفسية المضطربة لشخصية (المراة) , وكان لانضباط حركاتهم , وتساوقهم مع الموسيقي (عماد صفوك) دورا محسوسا كذلك كانت الأزياء معبرة عن هذا الانشطار الصارخ بين الشخصية نفسها ومع مايحيطها ونجح المصمم (ميلاد حامد) في رسم ابعادها , بسينوغرافيا (عصام جواد) , ونشطت الإضاءة من متابعة الانتقالات المكانية , وان لم تتعامل النسوة – أحيانا- بما ينبغي عليهن من ضرورة تحسس الضوء , ومغادرة الظلال .
ياترى هل استطاع عباس لطيف مؤلفاً , وعباس الخفاجي مخرجاً من الاقتراب الى الأهداف المعنية بكيفية ترميم انكسار العالم بالصورة تارة وبالسؤال تارة أخرى ؟ ليعيدا معا انتاج الدهشة من خلال الكلمة والمشهد ؟!.
هذا ماتجيب عنه مستويات القراءة المتنوعة للجمهور , وهو يترك لهم ختام العرض حيث ترجع السوداء الى عربتها تحت وقع دقات الموت , حيث تتراقص الاشباح سود وبيض على خلفيتها , وهي رابضة مثل لبوة جريحة تنظر للمستقبل.