شاكر الأنباريأهمية هذا الكتاب، رغم ترجمته قبل عقد ونصف تقريبا، وأصدرته دار المدى، تكمن في راهنية المعلومات التي يضمها حول حضارة بابل وإنسانها. ومن يربط الطقوس القديمة، والمعتقدات، والحكم، مع الحاضر سوف يجد مشتركات كثيرة. تمتد الفترة الزمنية التي درست في هذا الكتاب خلال الألف الثاني ومنتصف الألف الأول قبل الميلاد من حياة البابليين، واعتمدت على النصوص القديمة لحضارة وادي الرافدين.
كيف كان البابليون يفهمون الزمن؟ هل تبدل تصورهم عن الزمن خلال ألفي سنة من عمر الحضارة البابلية؟ هل كان يوجد اختلاف في مفهوم الزمن لدى الأفراد أنفسهم؟‏ قسم البابليون السنة إلى 360 يوماً، موزعة على 12 شهراً قمرياً، يتطابق اليوم مع الاعتدال الربيعي. ويبدأ اليوم في بابل مع غروب الشمس. ويقسم كل من الليل والنهار إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء يقسم بدوره إلى جزءين، ويطلق الفلكيون على هذه الوحدة الزمنية مصطلح (الساعة المزدوجة)، لكن هل عرف البابليون (ساعة حقيقية) أخرى؟ إذا كان الجواب بنعم فهل كانت شائعة الاستعمال؟ مما لا شك فيه أن البابليين عرفوا الساعة المائية، وهي عبارة عن إناء ذي ثقب صغير يتسرب منه الماء، ويعتقد أنهم عرفوا الساعة الشمسية أيضاً، غير أن استخدام تلك الأدوات كان مقتصراً على فئة ضيقة من الناس، هم علماء الفلك والرياضيات، أما الغالبية فيستخدمون الوحدات الطبيعية لقياس الزمن، السنة، اليوم، الساعة المزدوجة، فالزمن المجرد لم يكن مدركاً في القصور البابلية، ويمكن القول بشكل عام أن المفردات اللغوية المتعلقة بالظواهر الزمنية تمتاز بطابعها الملموس وبشكل يدعو إلى الدهشة. وحافظ الحكم الملكي في بلاد الرافدين، وحتى مرحلة متأخرة، على طابعه القدسي، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج. فعلى السمات الذاتية للملك وحسناته وسيئاته واصطلاحاته كان يتوقف كل شيء، في الوقت نفسه ساعد ذلك على لم شمل الشعب حول العاهل الحاكم، وربط النشاط اليومي للرعية بحياة حاكمها.‏ أما الماضي، كزمن، فيقسمه البابليون إلى ثلاثة أقسام، الزمن التاريخي والزمن المحيطي والزمن الأسطوري، والزمن التاريخي هو الماضي الموثق نسبياً، سمع عنه البشر أو قرأوه عياناً، والزمن المحيطي، هو الواقع على مشارف المحيط، زمن المعجزات الخارقة وغير المألوفة، زمن أبطال الملاحم والحضارات. في حين أن الزمن الأسطوري هو زمن الآلهة، لم يكن للزمن بحد ذاته أهمية لدى سكان بلاد الرافدين، فكرة المصير هي التي تكمن في أساس التصور البابلي عن الحياة وعن كل ما يحدث فيها. لكل شيء مصيره في هذا الكون، للآلهة والبشر، ومصير الإله يقرر دوره وعظمته ووقعه في مجمع الآلهة، ويتضح أن المصير يتقرر في لحظة نشوء الظاهرة: لقد تقرر مصير المدينة عند تأسيسها، ومصير الإنسان عند ولادته، ولا ترد في النصوص إشارات لذلك، لكن تتوفر معطيات لصالح هذه الفكرة، ويبدو أن قرارات الآلهة وكلمتهم والمصير المقرر من قبلهم تكون (نهائية).وتقرير المصير للإنسان عند ولادته لا بد أن يؤدي إلى تقرير مستقبله بشكل تام، ولا بد من أن يقود في النهاية، إلى القدرية المطلقة. وبعيداً عن المصير والزمن، كرس للملكية الخاصة في بلاد الرافدين دراسات كثيرة، لما لها من تأثير في حياة الفرد وسلوكه اليومي وعلاقته بالآخرين، إذ كانت معياراً للموقع الاجتماعي وصحة الفرد وعلاقته بالآلهة، غير أن الجانب النفساني)، في موضوع الملكية، لم ينل من الباحثين الاهتمام المطلوب، إلى أي مدى بلغ الإحساس بالملكية، وهل كان ثمة شيء مميز وبعيد كل البعد عن موقف الإنسان المعاصر من الملكية؟ من المعروف أن السمات الذاتية للإنسان تتجسد في الثروة التي في حوزته، ففيها يكمن نجاحه وسعادته، وفقدانه لهذه الأشياء يعني الموت، أو يعني نقيصة من اكتماله الذاتي. وفي النصوص التاريخية المكرسة للحملات العسكرية تكون التفاصيل حول الغنائم أكثر غنى في الحالات التي لاذ فيها العدو بالفرار للتأكيد على فداحة الخسارة وجسامة الأضرار التي لحقت بشخصية الهارب، بعد أن جرد من ممتلكاته. ولم تكن النتائج المترتبة على نقل الغنائم من الدول والمدن المحتلة إلى بلاد الرافدين، مقتصرة على الجوانب الاقتصادية الملموسة، فالثروة المفقودة، أو المستولى عليها، تؤثر على مصير المدينة ومستقبل الملك والبلاد أيما تأثير.‏ولعل المعتقدات الأخلاقية في الوعي البابلي، هي الأكثر تجانساً مقارنة مما هي عليه عند الإنسان المعاصر، على الرغم من أنها كانت متشابكة- مترابطة مع المعتقدات الدينية والتشريعية والاجتماعية، وهي بمجموعها تكون تصورات موحدة عن الوجود البشري، لم تكن عند البابليين عادة تخليد الموتى بواسطة النقوش التذكارية في الأضرحة، الأمر الذي جعل من هذا المصدر الحيوي فاقداً للفائدة، إن العدد الكبير من التراتيل والأدعية والتعاويذ والنصوص الملكية، يمكن أن تعوض جزئياً عن المعلومات التي تقدمها نقوش الأضرحة. لكن من الصعب الجزم إن كانت هذه النصوص تعبيرا بالفعل عن آراء الناس البسطاء، فالمعلومات المستخلصة منها أقل أهمية من المعلومات التي تقدمها نقوش الأضرحة الفردية والجماعية، كما هو حال الأضرحة الرومانية، إن المعضلة المرافقة للنصوص هي أن الكثير منها لم تكن موجهة إلى الجيل المعاصر، خاصة النصوص الملكية، بل إلى الأجيال القادمة والآلهة، أجل كانت ثمة كتابات موجهة للمع
الحياة الروحية فـي بابل: الإنــســان، الـمـصـيـــر، الـزمـــن
نشر في: 8 يناير, 2010: 05:06 م