TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: أقنعة الحداثة المُخادِعة

تلويحة المدى: أقنعة الحداثة المُخادِعة

نشر في: 8 يناير, 2010: 05:08 م

شاكر لعيبيما زال مفهوم الحداثة، بإطاره العريض، موضعاً عربياً للمساءلة ، بل الالتباس القادم من تداخل واختلاط فكرة (التحديث modernisation) التقنيّ، وأحياناً الشكلانيّ، بسياق ومرجعيات (الحداثة modernité). مصطلحان يتناوبان الأدوار في الاستخدام العربيّ
 ويثيران جملة من الإشكاليات الفرعية، خاصة عندما يعتبر دخول التقنيات الجديدة رديفاً للحداثة، أي من دون الأساس السياقيّ والمفهوميّ والتاريخيّ للمفهوم. لن يختلف اثنان على أن هذا السياق أوربيّ بالدرجة الأولى، الأمر الذي يضيف المزيد من المشكلات. لعل هناك ثلاثة حلول لهذه الإشكالية: أما أن الثقافة العربية تستخدم المفهوم بطريقة محلية خاصة، نازعة عنه أساساته ومصادر انبثاقه، وأما أنها تحوِّره تحويراً جذرياً لتكييفه مع حاجاتها، وأما أنها تتناوله تقريباً مثلما صدر في الفكر الأوربيّ. في الحالة الأولى نقع غالباً على نفي للمفهوم نفسه واقتراب من التحديث الشكلي والتجديد الذي لا يمسُّ البنى المفهومية، وفي الثانية نقع على حالة تعريبٍ ذي مصادر أيديولوجية للمفهوم يتضمن شيئا، قليلاً أو كثيراً، من التلفيقية مثل جميع المفاهيم المستعارة من ثقافةٍ ما ثم المُطبَّقة على ثقافةٍ أخرى، وفي الحالة التقريبية الثالثة نفتقد الإجماع على تحديد ممكن للمفهوم بحيث أننا نستخدمه بالمعنى الذي فهمه كلٌّ منا انطلاقاً من معارفه وقراءاته في اللغات الأجنبية. وحتى في هذه الحالة الأخيرة قد نجد اختلافاً في الدرجات والظلال بين معنى الحداثة في الثقافة الفرنسية ومثيلتها الأنجلوسكسونية. يمكن إيجاد شواهد، بعضها دامغ لهذه الحلول. فمنذ مثلاً أوائل الرحلات العربية، وليكن عمل محمد بن عبد الوهاب الغساني "رحلة الوزير في افتكاك الأسير" 1690 - 1691م، نلتقي بادئ ذي بدء باندهاش كبير من البون بين نسق الحياة (الحديثة) في إسبانيا المشاطئة والحياة (التقليدية) العربية الإسلامية. ثمة هنا شعور بالغربة والتغرُّب عن العالم الحديث المُشاهَد لكي يقع التركيز في المقام الأوحد على التحديثات الخارجية، البرانية التي مسّتْ جميع مرافق الحياة الأوربية، من دون امتلاك وعي بالتحوّلات البنيوية والفلسفية والصراعات العنيفة أحيانا التي كانت السبب المؤدي إلى نمط اجتماعيّ وثقافيّ حديث، أي مناهِض للنزعات التقليدية، فكراً ونشاطاً. في جميع الرحلات اللاحقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يطرأ على بال الرحالة أن ما يشاهدونه هو، ببساطة، نتيجة لقطيعة فكرية مع الماضي (رحلة الطهطاوي أو رحلة إدريس بن الوزير العمراوي "تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" سنة 1860م إلى فرنسا). على الصعيد التشكيلي توقف أولئك المسافرون إلى فرنسا وإنكلترا أمام الفن التشكيلي الأوربي، رسماً نحتاً. وقد واجهوه في ساحات ومتاحف القارة بذهول ما بعده من ذهول لجهة طبيعته (الواقعية) التي لم يعرفوا مثيلاً لها ولم يكن يوجد لديهم مثال يضاهيها. لم يشهد العالم العربي إلا في لحظات تنويرية جنينية قصيرة تحولاتٌ راديكالية وسجال جذريّ بإمكانه أن يتفتق عن جديد أساسي في الوعي والحياة. فكرة الانفصال العارف عن التقاليد الراسخة غير محبّذة على ما يبدو في الثقافة العربية. ومن بين هذه اللحظات الثمينة أفكار بعض شيوخ التنوير في مديح فنّيْ التصوير والنحت (كالإمام محمد عبده). إننا الآن على أعتاب القرن العشرين، وفيه ظلت الاستعارة من الآخر، وتكييف ما تقع استعاراته، متلبسةً بادعاء أخذ الصالح ونبذ الطالح وفق معايير غامضة إذا لم تكن مشحونة بقيم الماضي التي تسعى للحاق بالحاضر بطريقة توليفية صعبة. منذ نهاية القرن التاسع عشر برزت المساعي التي نعرفها، في مصر ولبنان بشكل خاص ولسببين تاريخيين مختلفين، في تكوين فنون تشكيلية (مُحدثة) تهجر، من بين أشياء أخرى، فن المنمنمة التشخيصيّ صوب فن منظوريّ (واقعيّ) بقيَ محكوماً بتقليدٍ مباشِرٍ للنموذج الأوربيّ (داود قرم وحبيب سرور وفيليب موراني في لبنان، محمد ناجي ومحمود سعيد ومحمود مختار ويوسف كامل في مصر). وفي سياق التحولات البطيئة في العالم العربي انتشرت مدارس وأكاديميات الفنون الجميلة (مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة 1908، مدرسة الفنون الجميلة في تونس1922، معهد الفنون الجميلة في العراق 1936، الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة 1943، مرسوم لم يتحقق بتأسيس معهد للفنون في سورية عام 1944)، وكان ما تنتجه من أعمال فنية متأخر كثيراً عن مدارس المشروع الحداثيّ الأوربي المُدْرِك لأصوله وأسبابه. ففي الوقت الذي تأسست فيه للتو أول مدرسة للفنون في مصر عام 1908 كان بيكاسو يرسم لوحته (آنسات أفينيون) معلناً الاتجاه التكعيبي، وفي الوقت الذي كان بول كليه يزور تونس والقيروان عشية الحرب العالمية الأولى ويستخرج من فنون العمارة والنسيج المحليين دروساً جمالية جديدة، حديثة لم تكن هناك ممارسة تشكيلية في جلّ البلاد التونسية. منذ نهاية الحرب الأولى وحتى سنوات الخمسينيات لم يكن موضوع (الحداثة) مطروحاً أصلاً في الفن التشكيلي، لكن هاجس (التجديد) و(العصريّ) الغائمين وحدهما كانا يشغلان النخب المتنوِّرة. ولذلك طبعا أسباب موضوعية لا يتوجب التقليل من شأنها،

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram