أصبح العالم وكل مجتمع فيه قرية كونية صغيرة، يتبادل فيها الناس في كل لحظة وعلى مدار الساعة ما هو شخصي وما هو أبعد من ذلك، من هموم اجتماعية ووطنية، بالكلمة والصورة والصوت بفضل التطور المذهل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وما يشكل حوامل لها. وهذا التطو
أصبح العالم وكل مجتمع فيه قرية كونية صغيرة، يتبادل فيها الناس في كل لحظة وعلى مدار الساعة ما هو شخصي وما هو أبعد من ذلك، من هموم اجتماعية ووطنية، بالكلمة والصورة والصوت بفضل التطور المذهل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وما يشكل حوامل لها. وهذا التطور لم يقتصر على هذا الميدان المعرفي الاجتماعي الذي وحّد العالم وأتاح للبشر فيه التواصل دون قيود وحدود، وانما شمل الصناعة والزراعة والسياحة والطيران، ولم تبق في الحياة شاردة ولا واردة دون أن يطالها هذا التطور في التقنيات والمنتجات ووسائل العيش والحياة. انها لحظة فريدة من قفزاتٍ متصلة وتجاوزٍ للمألوف والتقليد شكلت بمجملها انقلاباً في المفاهيم والقيم، وأدت الى تبعاتٍ قانونية امتدت الى الاحتكاك بخطوط التماس مع الاديان والمعتقدات وموجبات التحريم فيها ..
كان هذا الانقلاب المدهش ينطوي على تناقضات ونتائج تبدو احياناً في تعارض مع طابعه التقدمي كلما ازدادت وتائر نفاذه الى الاسرار الكونية، نزولاً الى المتناهيات في الصغر، وصعوداً الى عوالم الاجرام السماوية العظمى والكون الممتد بلا نهاية ..
ان ما هو ملفتٌ في جانبٍ من تناقضات هذا التطور، الآفاق المعرفية التي تطل من نوافذها، والعزلة التي تفرضها موضوعياً على البشر والمجتمعات وفي مواقع العمل والانتاج ..!فالعامل الذي كان في اتصالٍ مباشر داخل المعمل والمشغل مع اقرانه ورؤسائه، صار وحيداً معزولاً فيما يشبه الغرف الزجاجية التي تظهر في افلام الخيال العلمي، علاقته المباشرة مع الحاسوب والاجهزة الالكترونية والروبوتات. ونهاية تلك العلاقة في مكان العمل تؤشر لبداية جديدة في المنزل مع عالمٍ افتراضي يتشارك فيه مع افراد اسرته واصدقائه ..
ونحن اذ نحتفي بما تيسّر لنا من حوامل للتواصل الاجتماعي والثقافي والعلمي، يضيق من حولنا العالم الحقيقي وتتراجع العلاقات الاجتماعية في الاسرة وما كان ينبض بالحياة الواقعية من وجوه ووقائع وتبادلٍ للقيم . انه احتفاءٌ ينقلنا الى المستقبل ليضعنا أقرب الى حقائق ووسائل عيش جديدة، لكنه في ذات الوقت يحرمنا من نبض الحياة الاجتماعية والأسرية والصداقية الحية، ويخترق أدق خصوصياتنا واسرار مكنوناتنا، حتى كأنه يقترب من استلاب ما في الروح من مناجاةٍ ، فنفقد الى الأبد أدق خصوصية تميزنا عن الكائنات الأخرى .!
في زاوية من هذا التقدم في عوالم التواصل، انفتحت مساحة للاحتجاج امام المجتمعات التي استولت عليها الانظمة الاستبدادية الشمولية، وصارت للمدونات مواقع بلا رقابة مباشرة، وباتت لكل مواطنٍ نافذة يطل منها على الآخر، يعبر فيها بعيداً عن انظار عسس الحكومات عما يريد أن يقوله عن حرمانه ومعاناته والقيود التي تجرده من ارادته وحقوقه كانسان كامل الأهلية . ومع انفتاح هذا العالم على كل من يريد أن يطل منه، الا انه بطبيعته شدد من ارتباط مستخدميه بكل ما هو افتراضٌ ووسع مساحة عزلته من الكينونة الواقعية لذلك الافتراض.
ان المحطة الابرز لدور منصات التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر ويوتيوب، بالاضافة لوسائل الاتصال المباشر كسكايب وفايبر وتانغو وواتس أب، تمثلت في ما عُرف بالربيع العربي الذي اجتث انظمة شمولية متكرسة، وعصفت بنتائجه غياب الظرف والشرط الذاتي، مما جعله نهباً لجماعاتٍ سلفية وارهابية تعيد انتاج نمطٍ أشد قسوة وتجاوزاً ومصادرة لارادة المجتمع والمواطن الحر .
لقد توهمت اوساط واسعة وفعاليات اجتماعية وسياسية وثقافية، ان من فجر تلك "الثورات" المُجهضَة، هي وسائل التواصل بمختلف مسمياتها، حتى انها سمّيت بثورات الفيس بوك .! وظل هذا الوهم ينفذ الى الوعي الجمعي بين الشباب بوجه خاص، الى الحد الذي صارت الآمال تعلق عليها للخروج من المآزق والنكبات وانعدام شروط الحياة الانسانية الكريمة .
إن الخطيئة التي أدت الى هذا الاستنتاج، هي عدم الفصل او التفريق بين طابع هذه الوسائل كـ"حوامل" تكتسب فعاليتها وتأثيرها بقدر نقلها رسائل تعكس واقعاً نضجت ظروف تحوله الى حراك فعّال من شأنه تعبئة القوى المعنية به، والوهم بان هذه الوسائل معزولة عن هذه الظروف كقوة انبعاث وتفجير لقوى اجتماعية وسياسية. وهذا الوهم يصبح في حالة تعمقه واشاعة مفاهيمه الخاطئة عامل تكريس للعزلة بين القوى الحية المعنية باي حراكٍ والجماهير التي هي موضوع الحراك والاحتجاج ..
ان من الضروري اعادة دراسة هذه الظاهرة، ووضعها في اطارها الصحيح، فوسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك واخواتها، ليست سوى عوامل وسيطة او مساعدة على ايجاد روابط سريعة ومباشرة لكل من هو محيط فعالية يُراد لها ان تنطلق ، كما انها تلعب دوراً جاذباً في توسيع المشاركة والتحريض على التعبئة ، ليس الا ..!
يبقى ملامسة نبض الناس والوصول الى اوسع اوساط المجتمع، والاسهام في انضاج الظروف الموضوعية وتأمين الشروط الذاتية، شأناً يرتبط بالتحرك بين الناس والقدرة على ايقاظهم ورفع مستوى استعدادهم، وتعميق وعيهم بما يصب في مصالحهم، وكلما تلازم هذا التحرك الواقعي، مع استخدام منصات التواصل الاجتماعي وامكن توظيفها في اللحظة الفارقة، صار العالم الافتراضي اقرب الى الواقع واكثر تفاعلاً معه .
وهذا دورٌ ينتظر مبادرة النشطاء وقوى الحراك السياسي .